نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن تلتزم الدول بتوفير الاحتياجات الصحية للأفراد، فأصبحت صحة الإنسان والعناية الطبية بها واجب على الدول القيام بحمايتها، ونظرًا لأن الدول عاجزة عن ذلك ولا تقوم بالتزاماتها تجاه مواطنيها، فصار الحفاظ على صحة الإنسان من واجبات الفرد على نفسه، فيتكفل المواطن بكل ما يحتاجه للعناية الطبية له ولأسرته، ولكن المؤلم أن ترى إنسانًا تنفلت منه روحه وهو عاجز عن حمايتها من مرض اصابها، والمؤسف أن عجزه هذا عن علاج مرضه وإنقاذ روحه ليس بسبب قصر ذات اليد، ولكن لأن الدولة تسعى لقتله بالبطيء لأنه معارض للنظام الذي يحكم، فتتخذ السلطة بعضًا من الإجراءات التي تتسبب في تدهور حالته الصحية التي قد تؤدي في النهاية لموته وفقدان حياته.
هذا هو حال أكثر من خمسين ألف معتقل في السجون المصرية فمعظمهم يعانون من أمراض مزمنة نظرًا لكبر السن، والآخرون قد لحق بهم المرض داخل السجن بسبب الإهمال الطبي والغذائي، ولكي يتم إسعافهم حال اشتداد المرض عليهم لا بد من أن يخوضوا معركة ضروسًا تتكون من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى تبدأ عندما يشعر المعتقل أن حالته تسوء مما يتطلب عرضه على طبيب، فيطلب من زملائه الذين معه في الزنزانة إعلام إدارة السجن -المتمثلة في شاويش العنبر- بأن حالته تسوء، فينادي زملاؤه على الشاويش وغالبًا لا يسمع أصواتهم نظرًا لتواجد الشاويش خارج العنبر، فيطلبون من زملائهم الذين معهم في العنبر بأن يشاركوهم في المناداة على إدارة السجن وسرعان ما تتحول المناداة إلى طرق على أبواب الزنازين؛ نظرًا لأن حالة المريض تزداد سوءًا، وبعد المناداة والطرق ينطق الشاويش “هو في إيه”، فيتم إعلامه بأن هناك مريضًا في حالة حرجة يتطلب إسعافه فورًا، وعندئذ يقوم الشاويش بالسؤال عن غرفة هذا المريض واسمه وما هو المرض الذي عنده، وعند الإجابة عليه يتوجه الشاويش إلى الضابط المسؤول عن العنبر.
وعندها تبدأ المرحلة الثانية من تلك الرحلة؛ حيث يوجد الضابط في استراحته، ويُعلمه الشاويش بأن هناك مريضًا في العنبر يلزم إسعافه الآن، وعندها يكون علاج المريض مرتبطًا بالحالة المزاجية للضابط، فهناك ضباط يرفضون إسعاف المريض ويقولون ننتظر مواعيد فتح العنبر في الأوقات الرسمية وعندئذ تسوء حالة المريض وربما يعجل ذلك بوفاته؛ نظرًا لأن مواعيد الفتح الرسمية في أغلب الأحوال تكون بعد ساعات عدة، وهناك ضباط يقومون بعمل الإجراءات اللازمة لإعطاء الشاويش مفاتيح العنبر وتستغرق تلك الإجراءات أكثر من عشرين دقيقة على الأقل، وبعد موافقة الضابط على إسعاف المريض تدخل المرحلة الثالثة طور التنفيذ وهي إعلام الطبيب المتواجد في العيادة بأن هناك حالة مرضية يجب إسعافها، وتكون المفاجأة بأنه لا يوجد طبيب في العيادة، وإذا كان موجودًا فإنه يتعلل بأنه غير مختص بأن يقول مثلاً إنه طبيب أسنان، وإذا وجد الطبيب المتخصص يأمر الممرض بالذهاب إلى الحالة ويقوم بإسعافها هو -الممرض- فيذهب الشاويش ومعه الممرض إلى غرفة المريض بعد أن تمت تلك المراحل الثلاث لكى يتم إسعاف المريض والتي تستغرق أكثر من ساعة على الأقل ما بين مناداة وطرق على الأبواب وإعلام الشاويش ثم استئذان وموافقة الضابط وقرار الطبيب بذهاب الممرض إلى المريض.
وهناك مرضى يستغرق إجرءات إسعافها وقت أكثر من ذلك خاصةً إذا كانت حالتهم متدهورة جدًّا ولا يمكن إسعافها داخل عيادات السجن؛ الأمر الذي يتطلب نقلها إلى المستشفى، وخلال تلك الفترة تسوء حالتهم أكثر فأكثر؛ مما يعجل بوفاتها، أما المعتقلون الذين لديهم أمراض مزمنة أو أصيبوا خلال حبسهم ببعض الأمراض، فيتم إهمالهم الى أن يتفاقم المرض ويصبح لديهم مشكلة كبرى؛ لأنه لم يتم التعامل مع المرض منذ بدايته بالطريقة الصحيحة.
وبخصوص المعتقلين في أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز في قوات الأمن فالوضع أسوأ من ذلك؛ فلا توجد عيادات ولا أطباء ولا توجد أي رعاية لأي مريض وهناك المئات داخل تلك الأماكن يعانون من فقدان الرعاية الصحية؛ مما يتسبب في انتشار الأمراض وزيادة أعداد الوفيات، فضلاً عن ذلك لا يسمح في كثير من الأحيان بدخول أدوية للمرضى ولا يتم السماح لهم بعمل الفحوصات الطبية اللازمة لهم، بالرغم من حصولهم على تصاريح من النيابة أو المحكمة بإجراء تلك الفحوصات وإدخال الأدوية.
هناك أكثر من ثلاثمائة شخص قد قتلوا بالبطيء داخل السجون التي لا تعدو كونها عنابر الموت؛ بسبب هذا الإهمال الجسيم، سواء كان طبيًا أو غذائيًا أو إداريًا، وهناك المئات سينالون نفس المصير؛ لأن الداخلية تنتهج معهم نفس الأسلوب وهو القتل البطيء الممنهمج، ولا تُلقي بالاً بأي شخص تتدهور حالته أو يتوفى؛ فالأسباب المؤدية للوفاة كثيرة ومتنوعة، ومن ثم فلا خوف على إدارات أماكن الاحتجاز (سجون – أقسام شرطة – قوات أمن ) من أي مساءلة مهما بلغ عدد الوفيات والضحايا.
المدهش أن الذين يدعون أن اهتمامهم منصب على حقوق الإنسان يبررون للشرطة أفعالها ولا يتحركون تجاه شكوى أهالي المعتقلين قيد أنملة، بل يصل الأمر إلى ادعاء بعض الحقوقيين بأن شكوى الأهالي تحمل في طياتها الكثير من المبالغة، وهذا ما نص عليه تقرير المجلس القومي لحقوق الانسان عقب زيارته لسجن العقرب.
وقد تناسى التقرير أن هناك عددًا من المعتقلين قد توفوا داخل هذا السجن.. فريد إسماعيل، نبيل المغربي، عصام دربالة، عماد حسن،… – وهناك حالات تصارع الموت في مستشفى السجن.. عصام حشيش، مجدي قرقر، عصام العريان، عصام سلطان …- ، بل إن المجلس لم يطلع على الملفات الطبية للمعتقلين وخاصة الذين توفوا أو من ساءت حالتهم، ولم يرصد التقرير أن قيادات المجلس قاموا بزيارة المعتقلين المرضى للإطلاع على حالتهم الصحية، بل اكتفوا بزيارة عيادة الأسنان، ولم يطلعوا أيضًا على عنابر المعتقلين لتأكد أنها صالحة للاستخدام الآدمي ومطابقة للإعلانات والمواثيق الدولية.
ويبقى السؤال من الذي يستطيع محاسبة ومراقبة الداخلية على أفعالها ما دام المجلس القومي لحقوق الإنسان يبرر لها ما تقوم به؟