هل يملك الرسميون العرب شيئاً غير عبارات الاستنكار والإدانة، في مواجهة السيناريو الإسرائيلي (الرسمي) لاحتلال المسجد الأقصى، عن طريق خطة التقسيم المكاني والزماني؟ نعم يملكون الكثير، غير أن هذا الكثير لا يساوي شيئاً، إذا كان مكدّساً في مخازن العجز وانعدام الإرادة. صحيح أنه لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها، ولم يعد في وسع هؤلاء إلا السعي بين واشنطن وموسكو، في كل كبيرة وصغيرة تخص العرب، غير أنه بالإمكان أن يقدّموا صنيعاً للأقصى ولفلسطين، إن سمحوا للأجيال الجديدة أن تعرف القصة وتحفظ الحكاية، على حقيقتها، لا على الكتالوج الأميركي. ليس مطلوباً منكم، أيها السادة، سوى المحافظة على الذاكرة، واحترام التاريخ.
لا نريد منكم تحرير الأقصى، فقط نرجوكم تحرير الوعي. ليس مطلوباً أكثر من أن يكون من حق أبنائنا أن يحصلوا على كتاب في مادة التاريخ، تحمل صفحاته خارطة فلسطين.
ندرك أن الواقع العربي الراهن أوهن من أن يجعل أحداً يحلم بلحظة مواجهة، أو حتى “نرفزة” رسمية ضد العربدة الإسرائيلية، في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كل ما نرجوه أن يكون متاحاً للطفل العربي أن تحتوي حقيبته المدرسية على كتاب لتاريخ بلاده، ليس مستورداً من الخارج.
لا نريد أن نعكّر سكون واقعكم الجميل السعيد، فقط نطمح أن تتركوا الحلم يقظاً وحيّاً في وجدان وذاكرة أجيال ستأتي، حتماً ستأتي، متمردة على أكاذيب التاريخ الذي يكتبه المطبّعون، في زمن بات فيه صوت المحتل الإسرائيلي أكثر تأثيراً في صناديق الاقتراع العربية.
نعلم أنهم لم يشبعوا انتقاماً بعد، من تلك اللحظة التي تجرّأ فيها العرب، وأسقطوا وهزّوا عروشاً تدين بالولاء لهم، وتتبعهم في طاعة، نعلم أنهم عادوا، متحكّمين في التعليم وفي الإعلام وفي الفتوى، غير أننا نستطيع أن نهمس في آذان صغارنا، بعد أن نُحْكِم غلق الأبواب على أنفسنا، مخافة العسس، أن إسرائيل هي العدو الذي يحتل أرضنا وفضاءنا، وأن فلسطين عربية، وأن القدس كاملة عاصمتها.
ندرك أن المعركة شديدة الصعوبة، وميزان القوى في صالحهم، لكن موازين الحلم في صالحنا بالتأكيد، إذ تكاد تكون معادلة حسابية صحيحة: كل دعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني تجدهم ضد الربيع العربي.
انظر حولك، اسمع واقرأ وتابع المواقف والتحولات، ستجد الأكثر ابتهاجاً بالثورات المضادة، المدعومة إسرائيلياً، والتي جاءت لتحرق الربيع العربي المولود في 2011، هم معسكر الانسحاق أمام الإرادة الأميركية الصهيونية، والأوضح فجوراً في المناداة بالتطبيع مع الكيان المحتل، والأشد حماساً للقطيعة مع “حماس” ومعاداة مشاريع المقاومة العربية.
وعلى ذلك، لن تكون متعسفاً لو استخدمت الموقف من إسرائيل، كإحدى أدوات قياس المسافة بين الشخص أو الحزب أو التيار، وثورات الربيع العربي، إذ في الغالب لن تجد تطبيعياً مع الربيع، ولن تجد ربيعياً مع التطبيع.
انظر إلى حالة النشوة التي تعتري علي سالم وعبد المنعم سعيد، وبارونات “جماعة كوبنهاجن” سيئة الذكر، وهم يكتبون عن انتصار أوغاد الثورات المضادة على ثورات الربيع العربي، ثم انظر إلى حالة الفرح القومي في الكيان الصهيوني بانكسار مشروع التغيير في الوطن العربي، ستشعر، للوهلة الأولى، وكأنك بصدد احتفالات بالثأر من الثورات، التي أعادت دراما حرق الأعلام الإسرائيلية، والهتاف ضد الاحتلال والزحف إلى الحدود، في محاولة لعبورها إلى فلسطين، للتصدي للعدوان.
كتبت في هذا المعنى، مع أول إطلالة من هذه النافذة قبل نحو عامين ما يلي “عندما أشرقت على العرب شمس الربيع، شعر الكيان الصهيوني بالصقيع، فانطلقت حناجر فتيّة تزأر بالهتاف مجدداً لفلسطين، وانفتح كتاب الأرض والدم، وقرأ الجيل الجديد سطوراً من التاريخ المطمور تحت ركام عقود من الفساد والاستبداد، واستعاد الورد ذاكرة العبير، فهبّت نسائم الشوق لتحرير الأرض المحتلة، بعد أن رأى الشباب العربي، فيما يرى الثائر، أن عملية تحرير للإنسان العربي قد تمّت أو أوشكت”. إن الأكثر ارتباطاً بمشروع الانقلابات والثورات المضادة هم أيضاً الأكثر استعداداً للتطبيع مع العدو، تجدهم ليّنين للغاية في مسألة العلاقة مع إسرائيل، متشددين لآخر مدى، في ما يخص العلاقة مع “الإخوان” أو “حماس” أو أي مشروع يقاوم.
هل هي المصادفة التي جعلت حزب النور السلفي في مصر، مثلاً، هو الأكثر ولاءً وطاعةً لسلطة الانقلاب، وفي الوقت نفسه، كان أول من أبدى استعداداً للسير على طريق التطبيع؟ في نهاية العام 2011، فوجئ الجميع بأقوال المتحدث باسم حزب النور السلفي المصري، في مقابلة غير مسبوقة مع إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، يعلن فيها أن حزبه سيحترم اتفاقية السلام الموقّعة مع إسرائيل عام 1979 “نحن لا نعارض الاتفاقية، لكننا نقول إن مصر ملتزمة بالمعاهدات التي وقّعتها الحكومات السابقة”.
وحين سئل عن إمكانية قدوم إسرائيليين إلى مصر للسياحة، كان الرد “أي سائح يأتي إلى مصر سيكون مرحّباً به بلا شك”. وقتها، قامت الدنيا ولم تقعد، ونفى حزب النور علمه بهوية الإذاعة، لكنه لم ينفِ ما ورد بصوت المتحدث باسمه، وأظن أنك لو سألت أي “نوري” آخر من هذا التيار الأليف الآن عن تصوّره للعلاقة مع الكيان الصهيوني، فلن يقول كلاماً مختلفاً.