كان محمد البرادعي وطنيًا مخلصًا، ومحبًا حقيقيًا لمصر، حين سبح مع السابحين في مستنقع الانقلاب الذي فتح بواباته في الثلاثين من يونيو 2013، رفعوه فوق الأكتاف، حتى قبل أن يكون نائبًا لرئيس سلطة سفاح (بكسر السين أو فتحها مع التشديد لا فرق)، وحين اتخذ قراره بالقفز من السفينة المبحرة في الدماء، أعادوه عميلًا ومخربًا وجاسوسًا من جواسيس المجلس الأعلى للعالم.
ما أشبه الليلة بالبارحة فعلا، وكأننا في نهايات 2009 لحظة ظهور البرادعي، إذ انطلقت حملة الشيطنة والتخوين والتكفير، في آن واحد، لأنه اقترب وأدلى بدلوه في مساخر الحياة السياسية المصرية، بانتخاباتها ومشاريع توريث سلطتها.
الآن، كما في 2009، بات البرادعي مسؤولا عن كل كوارث المنطقة العربية، هو الذي غزا العراق، وهو أيضا صاحب مراكب الموت التي جرفت سورية من سكانها.
في يوم 6 ديسمبر 2009، كتبت عن “البرادعي وعساكر الهجانة”، واليوم أكاد لا أرى اختلافا في المفردات والحناجر العقور التي تفترسه، لمناسبة تغريدة دعا فيها إلى مقاطعة انتخابات البرلمان السيسي: أستئذنك في إعادة نشر ما سجلته وقتها:
هذه نكتة الموسم السياسية: محمد البرادعى متهم بمساعدة أمريكا فى احتلال العراق!
والنكتة ليست فى مضمون الاتهام، بل هي فيمن يوجه الاتهام من جوقة الإعلام الحكومى الأجوف.
يمكن انتقاد مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية على أنه وافق على أشياء فتحت الطريق أمام جورج بوش وعصابته لغزو العراق واحتلاله، كما يجوز أن نرفض اعتذار البرادعي عن موافقته على أشياء، كان يجب ألا يوافق عليها، بنص عباراته، أسهمت في دعم ضرب العراق، على اعتبار أن الاعتذار بعد خراب مالطة لا قيمة له، وعلى أساس أن صحوة الضمير بعد الكارثة لا تعفيه من المسؤولية الأخلاقية لصمته أثناء ارتكاب الجريمة.
النكتة الحقيقية أن الإعلام المصري الرسمي يتذكّر، الآن، فقط أن ما جرى في العراق جريمة أمريكية، كاملة الأركان، وهو الإعلام ذاته الذي تحول، طوال الفترة السابقة، على دوران آلة الحرب إلى جزء أصيل من الحملة الدعائية الأمريكية عن أسلحة الدمار الشامل، الموجودة لدى صدام حسين.
النكتة الحقيقية أن الإعلام الحكومي يتجاهل، أو يتناسى، أن مصر الرسمية كانت شريكًا في الحرب الأمريكية على العراق، بل إن مسؤولين مصريين كبارًا لم يتورعوا عن التباهي بأنهم قبضوا ثمن موافقتهم على ضرب أمريكا العراق مقدمًا، سواء عن طريق إسقاط ديون أو من خلال صفقات سياسية أخرى.
والمضحكات كثيرة في هذه الحملة العشوائية ضد البرادعي التي يشنها حاليا الإعلام الرئاسي ــ الحكومي وبعض المستقل ــ على طريقة طلعات عساكر الهجانة في غابر الأيام، إبل تتخبط في الطرقات على ظهورها، مساكين طلب منهم أن يهجموا ويضربوا، من دون تفكير أو فهم لطبيعة المهمة.
من ذلك مثلًا التلميح والتصريح بأن البرادعي مزدوج الجنسية، وأزعم أن العزف على هذا الوتر ليس فى صالح الذين ينطلق من أجلهم عساكر الهجانة، لأن بعضهم، أيضًا، لا تزال جنسيته الثانية موضع سؤال.
لكن اللطيف حقا أن يقال إن مصر سامحت البرادعي، وعفت عنه ومنحته قلادة النيل العظمى، رغم أنه كان مرشح القوى الاستعمارية “أمريكا وبريطانيا” في انتخابات الوكالة الدولية عام 1997 وضد مرشح مصر محمد شاكر. ولو كان ذلك صحيحًا، فإن المدان ليس البرادعي بالطبع، بل من منحه هذه الجائزة الرفيعة مكافأة له على انتمائه للأعداء ضد بلده، كما يحاول أحد الهجانة تصوير الموقف.
أقول قولي هذا، وأنا أدرك أن البرادعي لن يرشح نفسه لانتخابات الرئاسة، وأزعم، مجددًا، أن المستفيد الأول من مسلسل “البرادعي” هم الواقفون خلف عساكر الهجانة، وإن غدًا لناظره قريب.
.. والحديث موصول.