تعيش جماعة الإخوان المسلمين (في مصر) حالة غير مسبوقة من الإنكار، نتيجة فشل خياراتها واستراتيجيتها طوال العامين الماضيين. فمنذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، لم تراوح الجماعة مكانها، وكأن شيئاً لم يتغير. سار الزمن وجرت في نهر الانقلاب أمور كثيرة، منها أنه لم يعد انقلاباً، وإنما بات حكماً عسكرياً متغلباً، وعلى الرغم من ذلك، لا يزال “عقل” الجماعة متجمداً عند لحظة الثالث من يوليو لم يغادرها. ويبدو أن الجماعة تعيش حالة مذهلة من الإنكار من خلال اتباع الاستراتيجية نفسها التي سلكتها، منذ إخراجها من السلطة، والتي تقوم على المواجهة بغض النظر عن النتائج.
تقول كواليس “الإخوان” إن حلفاء الجماعة المقرّبين نصحوها، مرات، سواء في فترة اعتصامي “النهضة و”رابعة العدوية”، أو بعد فضّهما بعدم الدخول في مواجهة ضد الدولة العميقة، وفي قلبها المؤسسة العسكرية. ليس فقط لعدم امتلاك الجماعة وسائل المواجهة، سواء السلمية (نتيجة رفض القوى الأخرى التحالف معها وفقدان الثقة فيها) أو المسلحة، وإنما، أيضاً، باعتبار أن ما حدث معها ما هو إلا واحدة من جولات الصراع السياسي، وأن المعركة لم تحسم بعد. باختصار، طالبها حلفاؤها أن تقبل الواقع الجديد، على مرارته وصعوبته، وأن تعيد الكرة إلى ملعب الشعب، بالقول، إن ما حدث انقلاب عسكري على الإرادة الشعبية، وتعلن انسحابها من المشهد العام، وتترك الساحة للشعب، يدافع عن خياراته وقراراته، حتى وإن كان من بينها رفض عودتهم إلى السلطة. كان لدى الحلفاء بعضٌ من الأمل في أن تعيد الجماعة النظر في حساباتها السياسية، بعد خروجها من السلطة، وأن تتعلم من أخطائها، مثلما فعلت حركات وقوى سياسية أخرى، وأن تعيد ترميم ما انكسر، سواء فى علاقتها بالشارع أو بالقوى السياسية الأخرى. لكنها لم تستمع إلى النصيحة، بحسب الكواليس، واستسلمت لمزايدات بعض قواعدها من جهة، ولمن يقفون على يمينهم من جهة أخرى، خصوصاً الذين اعتلوا المنصات، وأطلقوا التهديدات، فوقعت الكارثة فوق رؤوس الجماعة، ودفع شبابها ورجالها، ولا يزالون، ثمن رعونة القيادات وتحجر عقليتهم وبؤس خياراتهم وضيق أفقهم.
أتذكّر جيداً حين سألت قياديين كبيرين في الجماعة في أثناء اعتصام “رابعة”، عمّا إذا كان لدى الجماعة خطة بديلة، إذا ما فشل الاعتصام فى تحقيق مطلبه الرئيسي، إعادة محمد مرسي إلى السلطة، فكانت الإجابة قاطعة وجازمة أنه لا توجد خطة بديلة، فإما إسقاط الانقلاب أو الموت دونه، فكان الموت هو الأقرب. ومنذ ذلك الوقت، لا تزال الجماعة ترفع الشعار نفسه، وتتبع النهج نفسه في التعاطي مع الوضع القائم، على الرغم من المياه الكثيرة التي جرت في مصر وفى الإقليم طوال العامين الأخيرين. قصص وحكايات كثيرة سمعتها وقرأتها لشباب من “الإخوان”، ناقمين على رعونة وفشل القرارات التي أصدرتها بعض القيادات، في مرحلة ما بعد الانقلاب، وكان ثمنها أرواح ونفوس تم إزهاقها، من دون جدوى.
لا تمتلك الجماعة موهبة التفكير خارج الصندوق، وتحشر نفسها واستراتيجيتها في ثنائيات ضيقة ونهايات حتمية، تعكس ضيقاً فى الأفق، ورعونة فى التفكير، وفشلاً فى التخطيط، وبؤساً في التنفيذ. ولا تدرك أن المقدمات نفسها لابد وأن تؤدي، حتماً، إلى النتائج نفسها. تستنسخ سردية المحنة والابتلاء، ويستحضر قادتها ومنظروها، الآن، فقه التضحية والقصاص، وتستثمر في المظالم الفردية والجماعية التي وقعت بحق أفرادها، مضحيّة بهم على نصال سلطة غاشمةٍ، لن تتوانى عن سحقهم وإبادتهم من دون وازع من ضمير. جرّبت الجماعة، أو من يديرها، طريق السلمية، على الطريقة الكربلائية التي لا تأخذ العظة ولا تتعلم الدرس، ففشلت، وتتدحرج، الآن، منها قطاعات باتجاه العنف، تحت مسميات غامضة، كالحراك النوعي والمسار الثوري، وفي الأغلب أنها، أيضاً، ستفشل.
لا يدرك العقل الإخواني، أن الأزمة ليست فقط فى الواقع المزري الذي تعيشه مصر، الآن، وإنما، أيضاً، في بؤس خياراته وقراراته وحساباته. ولا يزال هذا العقل يدور في حلقات مفرغة من التيه والتخبط، من دون رأس قادر على استيعاب الحقيقة، وقادر على حسم خياراته. ينتظر هذا العقل حلاً أسطوريا يخلصه من مأزقه، ويرى فى التراجع وإعادة الحسابات خطيئة وجريمة وخيانة لدماء شهدائه. بينما في الحقيقة أنه يدفع، ربما من دون وعي، باستحلال هذه الدماء وانتهاكها واسترخاصها لدى الجمهور.
يأتي هذا كله في وقت تعيش فيه الجماعة أزمة داخلية غير مسبوقة، وتتقاذفها حالة حادة من الانقسام والاستقطاب والتلاسن والتجاذب الذي يعكس مأساتها ومأزقها. وهي الأزمة التي تتعمق، كل يوم، نتيجة فشل من يديرون الجماعة فى التفكير خارج “صندوق الانقلاب”، والإصرار على تكرار الأخطاء نفسها وانتظار نتائج مختلفة. بل الأنكى أنهم لا يدركون أن ادعاءهم بإسقاط النظام مجرد وهم، ليس فقط لعدم توافر شروطه لديهم، وإنما، أيضاً، لوضع الجماعة البائس حالياً نتيجة انقسامها وتهرؤ بيتها الداخلي. ولا أدري كيف يمكن لجماعةٍ، برأسين وقيادتين وخطابين واستراتيجيتين، أن تسقط وحدها هذا النظام.
وفي الوقت الذي لا يجرؤ فيه أحد على مطالبة القيادات الحالية، أن تقدّم كشف حساب عما أنجزته طوال العامين الماضيين، والاستمرار في اتباع نهج “الأخ اللي فوق يعرف أكثر”، فإن ماكينة الابتزاز والمزايدة والمناكفة الداخلية لا تتوقف عن دفع الجماعة باتجاه سيناريوهات بائسة. ولا يدرك من يدير الجماعة، حالياً، أن كل يوم يمرّ عليه من دون تغيير جذري في الفكر، وتعديل حقيقي فى المسار، واستيعاب لمأزق الجماعة التاريخي، فإنه يدفع بها نحو السقوط الحتمي ويسهّل مهمة خصمها، في تصفيتها والتخلص منها.