أينما سرت في إسطنبول وجدتَ قومًا لم تكن تتوقع أن تراهم، مدينة السلاطين العظام هذه كأنما تختصر العالم الإسلامي من جديد، أو كأن روح العثمانيين الأممية تعود إليها مرة أخرى.
في هذه المدينة، ترى من قذفت بهم البلاد بأثر الاضطهاد، من سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر والجزائر والمغرب وجزيرة العرب، حشد كبير من قادة العمل الإسلامي وشبابه الذين لم يجدوا ملجأ سوى تركيا!
هنا ترى أنشطة الدعم المادي والإعلامي والإغاثي للمسلمين في بورما وتركستان الشرقية والقوقاز وإفريقيا الوسطى وجمهوريات وسط آسيا، وتلقى أناسًا ما كان يمكن لقياهم إلا هنا، يتولون جمع التبرعات أو التعريف بالقضية المنسية للمسلمين في هذه الأنحاء!
حتى الأطياف الإسلامية، تبدو الآن وكأنها قد حُشرت وحُشدت في تركيا، فأقصى يمين السلفية الجهادية (داعش) حتى أقصى يسار الصوفية الشعائرية الذاهلة عن العالم موجودة في تركيا، ولتنظيم الدولة أتباع ومؤيدون بين الأتراك أنفسهم، وما بين هذين الحدين سائر الطيف الإسلامي من الإخوان والسلفيين والجهاديين، مع دفقات غير منحصرة من الأفراد المفكرين والعلماء والهيئات المستقلة.
وأما الأعراق فكذلك، ففي تركيا العرب والأتراك والأكراد والتركمان والألبان والأفارقة والأمازيغ والقوقاز والشركس والروس والأعراق الآسيوية الممتدة من تركيا في أقصى غرب آسيا حتى الصين في أقصاها الشرقي.
إسطنبول الآن صورة مختصرة من العالم الإسلامي، قضاياه وهمومه وتياراته وأعراقه.. ولا يمر يوم في إسطنبول إلا وفيه فاعلية أو فاعليات لنصرة قضية من قضايا المسلمين، منذ المؤتمرات الكبرى حتى المسيرات والوقفات الصغيرة، وكثير من القنوات الداعمة لهذه القضايا تتخذ مقراتها من الأرض التركية.
لو لا قدر الله وأصاب إسطنبول شيء، فالخسارة الإسلامية العامة ستكون محققة وأكبر مما يتوقع الجميع!!
ما كان لهذه الصورة أن تكون كما هي عليه الآن، لولا أن الرجل الذي يقود هذه البلاد يمتلك هذا التفكير الأممي، ومن الملفت للنظر لدى قراءة سيرة صعود أردوغان، هو أن الرجل كان منذ قديم يحمل هذه الرؤية العالمية الأممية.
فمنذ وقت مبكر، وحين كان رئيسًا لشعبة إسطنبول في حزب الرفاه (الذي قاده نجم الدين أربكان حتى الانقلاب العسكري في فبراير 1997)، لم تكن همومه منصبة على إسطنبول، بل ولا على تركيا وحدها. بل “تتناول اجتماعات مجلس إدارة شعبة إسطنبول برئاسة أردوغان كل الموضوعات تقريبًا ذات العلاقة بتركيا، وليس الموضوعات الخاصة بالحزب أو بالشعبة فقط. فلم تكن تلك الاجتماعات عبارة عن تهيئة أو تخطيط توازنات القوى داخل الحزب، بل كانت بمثابة منتديات نقاشية يتم فيها تناول قضايا تركيا ومعالجة مشكلاتها بإخلاص وصدق. فعلى سبيل المثال كانت مشكلة جنوب شرق تركيا ومعالجة مشكلاتها بإخلاص وصدق. ومشكلة جنوب شرق تركيا أي مشكلة الأكراد، تطرح نفسها دائمًا على جدول أعمال الاجتماعات ما لم تُعرض الأحداث التي تجري في البلقان على جدول الأعمال. وفي تلك الأيام كانت هذه الاجتماعات تناقش موضوعات مثل حرب الخليج، والقضية الفلسطينية، والجمهوريات التركية المستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفيتي المنهار، والتطورات السياسية الأخرى كافة بالإضافة إلى قضايا الداخل التركي”(1).
ومناقشة مثل هذه الأمور، هو أمر مستغرب من مسؤول حزبي في محافظة من المحافظات التركية، فكيف إن كانت تركيا هي العلمانية الكمالية التي تقيم محاكم التفتيش على أمر الدين؟!
وقد انزعج أردوغان -وهو إذ ذاك رئيس شعبة إسطنبول- من قرار قيادة الحزب بالتحالف مع حزب الجبهة القومية (وهو حزب تركي قومي يمجد العرق التركي وبينه وبين الأكراد عداء مستحكم) في انتخابات 1991، لما لهذا من تأثير على احترام ومكانة حزب الرفاه في منطقتي شرق وجنوب شرق الأناضول (وهي المنطقة الكردية) (2).
وفي تلك الأثناء (1991)، نظم الحزب ندوة عن الجزائر في إسطنبول، وفيها تحدث أردوغان عن مأساة الانقلاب العسكري في الجزائر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فكان مما قال:
“إنني أدرك التطورات التي وقعت في الجزائر باعتبارها عدم احترام للشعب الجزائري وتحقيرًا لإرادته. فرغم النظام الانتخابي الجائر يفوز الإسلاميون بالسلطة، ثم وعلى الفور ينقلب عليهم الجيش، فيستولي على السلطة ويمعن في البطش والتنكيل بهم.
إن الغرب يعجز عن نقل تعريفه للديمقراطية إلى ميدان الممارسة. فتعريفات الديمقراطية التي تعج بها دوائر المعارف بدت عاجزة عن الوقوف في ساحة التطبيق. فرغم المفاهيم مثل “حكم الشعب للعشب”، “حكم الأغلبية”، نجد الجزائر لا تحترم النتيجة التي كشفت عنها العملية الديمقراطية، بل تعجز عن تحملها، وتكون النتيجة أن عشرات الآلاف من الناس قد زُجّ بهم في السجون والمعتقلات الآن. إن العسكر في الجزائر قد صُمَّت آذانهم عن سماع ما يقولوه مسؤولو FIS [الجبهة الإسلامية للإنقاذ]: زجوا بنا في السجون كيفما شئتم، فقد انطلق السهم من قوسه، وسيصل حتمًا إلى هدفه، وسيحكم الشعب بإرادته.
إن كل نظام يعجز عن الاستقواء بشعبه فليس لأي قوة أخرى أن تحميه أو تشد من أزره، وسيكون الانهيار والزوال حتما مصيره، وعاقبته المنتظرة. وأولئك الانقلابيون تنتظرهم عاقبة السوء مثلهم…” (3).
ويبدو أنه كان ينطق عن الأتراك وتركيا أكثر مما كان ينطق عن الجزائريين، فلم تمض إلا سنوات ووقع الانقلاب العسكري في تركيا على حزب الرفاه (فبراير 1997)، وساعتها كان أردوغان في منصب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، وكان من آثار هذا الانقلاب اتهامه بالفتنة والتحريض لأبيات شعر ألقاها في محافظة ديار بكر، فقضت المحكمة بحبسه.
ما يهمنا في سياقنا الآن، هو أنه وقبل دخوله إلى السجن، ألقى كلمة جاء فيها:
“إخواني الأعزاء!
إنني أريد قول بعض الكلمات، اليوم هو 26 مارس لعام 1999، وبعد غد إن شاء الله عيد الأضحى المبارك، وإنني أتمناه عيدًا مباركًا لكل أهالي إسطنبول وكل أفراد أمتي والعالم الإسلامي بأسره.
فهذا العيد له خصوصيته، فقد مر إخواننا في كوسوفا بأيام عصيبة في الأوقات الأخيرة، فأنا أتوجه إليهم بكل أمنياتي بأن يعودوا إلى ديارهم في أسرع وقت، وبقضاء عيد مبارك تتخلله السعادة والسلام والحرية. كما أرسل من هنا خالص تقديري ومحبتي لإخواني من شباب الطيارين الذين تحملوا مهمة شاقة ومشرفة حتى ينقذوا إخواننا في كوسوفا من ظلم الصرب، وأتمنى لهم عيدا مباركا. وأتمنى أن يعودوا إلى وطننا بسعادة وسلامة وهم ناجحون في مهمتهم ليشرفونا جميعا”(4).
والآن لسنا في حاجة للتدليل على الاهتمام الأممي لأردوغان بقضايا العالم الإسلامي، لا سيما القضايا المنسية في بورما وتركستان الشرقية والبلقان وإفريقيا.. كما لسنا بحاجة للتدليل على تعلق الملايين من المسلمين به ودعائهم له، خصوصًا في تلك المناطق البعيدة: من إندونيسيا شرقًا مرورًا بشعوب وسط آسيا حتى شعوب البلقان في أوروبا، ومعهم كثير من العرب والمسلمين.
………………………….
(1) حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص88.
(2) حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص90.
(3) حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص107.
(4) قصة زعيم ص270، 271.