هل ندرك أن مسألة حسم القوى بيننا اختلفت معادلتها؟ نتحدث اليوم عن من يكون الأجرأ على مستوى الإعلام والتأثير لا من يحسم الموقف بعتاد قوة الجيش لأن الموازين اختلفت كثيرًا عما كنا نعرفه، تتهيأ النفوس والمجتمعات لإدراك حجم الإعلام التقليدي وقوته سواء كان مرئيًّا أو مسموعًا أو مقروءًا، تحاول تلك النفوس أن تقاوم بما تتعرض له من توجهات وأفكار عن طريق مشاهدة المحتوى وتكرار عرضه عليها، فَتُقوي من تجد في ذاتها الثقافة التي تؤهلهم على الصمود أو تنهزم بداخلها بمجرد تلقيها المعلومة وانشغالها عن واقع مجتمعها عبر الاهتمام بالمعلومات السطحية وتغليب الأحداث الفنية على المستوى الاجتماعي، ويدفع الفرد للصراع بين نموذجه الحضاري وبين الغزو الثقافي من الخارج حتى يمكن له احتواء نموذج على الآخر، فلو تمسكت بحضارتها انتصرت ولو احتوت ما أتى من خارج محيطها استسلمت وأعلنت بداية هزيمتها الثقافية.
ليس من بيننا حتى الآن إلا قلة من الدول العربية القادرة على خوض مجال التجربة الإعلامية بقوة، قنوات ومنابر إعلامية كثيرة لم تصمد وفشلت في مواجهة الحقيقة التي تدركها شعوبها المثقفة، أما التي صمدت فإما أن الشعوب استفادت من مضمونها وتعطيهم المعلومات والإجابة عما يبحثون عنه من اهتمامات أساسية، أو أنها من الشعوب السطحية التي تستمتع ببرامج ترفيهية أو حتى برامج غربية بنسخة عربية، واقعنا يقول إن البرامج الاجتماعية والثقافية غائبة عن الساحة الإعلامية رغم المحاولات المتواصلة التي تؤكد أن الإعلام مهنة صعبة لا حياد فيها، ومهما فعلت الجهود للسيطرة عليه فإنه يملك قوة وسحر التأثير التي يستطيع بها استرجاع مكانته.
لقد سَخَّرت مواقع التواصل الاجتماعي كون الفرد ناقلًا للمعلومة، فيصنعها بالشكل المناسب له، حتى وصلنا لحال نصدق فيه المعلومة ثم نكذبها أو العكس صحيح، مع بذل الجهود لفرض العقوبات والقيود تجاه التحكم بما يعرض وينشر من محتوى إلكتروني، هنا نتحدث عن مدونين اعتقلوا أو ذهبوا وراء الشمس لمجرد تنوير حياة الآخرين أو أنهم نقلوا واقع مجتمعاتهم عبر هواتفهم المحمولة أو أصابعهم التي تلاصق لوحة مفاتيح أجهزة الكمبيوتر لتوصف حال ما يشاهدونه، أتذكرون ما جرى في الربيع العربي حينما انهمرت سيول من أشرطة الفيديو والمدونات وعلا شأن المواطن الصحفي كونه الشاهد والمشهود لواقع المجتمع، هنا خضع الإعلام العربي للنزول لرغبة المشاهد والحقيقة والاستغناء عن مراسليهم ومصادرهم التي اعتادوا عليها ليس إلا بسبب أن سيل الواقع أكبر من صناعة الوهم والخديعة على المشاهد العربي، ولو صُنع الوهم لأدرك المواطن العربي مقارنة بسيطة يضعها على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي ليتحقق مما يبثه الإعلام الرسمي أو الإعلام المأجور فيميز الحقيقة ويراها رأي العين، لذا برزت العديد من المبادرات والدعوات التي تتجه لإبراز دور الفرد والمؤسسات في نشر الوعي وتنوير العقول والثقافة التي من خلالها نقدر أن نصل لما نشاء توصيله للمجتمعات، تكونت مجموعات إخبارية لم نعرفها في دراستنا للإعلام ولم تُطلق عليها حتى مسميات عبر التاريخ، ليس إلا أنها أفكار وليدة اللحظة، وحاجة ماسة لمجتمعات عجز الإعلام الرسمي أن يصف حالتها، لذلك تميزت أنها تنشر متى ما أرادت وكيفما شاءت وأطلعت العالم بأسره أن الحقيقة لا يعلو لها ثمن، أصبح المواطن الصحفي في فترة الربيع العربي الناقل الأول للواقع، هناك من ضحى بروحه وماله من أجل أن يدفع ثمن الحقيقة ولكن هل قدرنا ذلك؟
بوقتنا الحالي يرى العديد من الناس أن الاتجاه لتوعية الجمهور وتدريبه على فهم الإعلام الاجتماعي وطريقة توصيل المعلومة وصياغتها نوعًا من التفاهة وتقليل في شأن الإنسان ذاته، كيف يدفع المال من أجل معلومة قد يفهمها طفل في بدايات حياته الدراسية؟ إننا حسب قولهم لسنا بحاجة للمزيد من الثقافة والتعليم، واقعنا نتعلم فيه بأيدينا لا بالاعتماد على الآخرين، يفرضون أولئك الأنانية في تلقي المعلومة أو حتى بأخذها ممن أعلم منا حتى نرضخ للواقع ولا نتقدم عن منافسة الشعوب التي سبقتنا بتنوير عقول شعوبها عبر الصرف على التعليم أكثر من عتاد الجيش، ولعل هذا الاتجاه هو أكثر الأمور التي تدفعني في المضي قدمًا على تأسيس مفاهيم جديدة للإعلام الاجتماعي تناسب مجتمعنا العربي، فعلى الرغم مما نتعرض له من حملات للتشويه والتقليل من شأن الإعلام الاجتماعي كون جوهره أن نجعل من صناعة الإنترنت صناعة تعتمد على ثقافة المتلقي والمرسل في آن واحد، نحاول معًا أن نفهم من حولنا أن المساحة الفارغة التي مهدت لهم كافة المواقع الاجتماعية أنها فن من الفنون التي تحتاج لممارسة واحتراف، كيف لا والإعلام الاجتماعي جعل كل وسائل الإعلام في جيبنا، أصبح تلفزيوننا الآن يوتيوب ومذياعنا بودكاست وصحيفتنا الورقية مدونة إلكترونية لتجتمع كل وسائل الإعلام وتنعكس أساليب التلقين إلى الانتقاء والاختيار في تلقي المعلومة بالشكل الذي نريد وننشره في الوقت الذي نشاء، هل تعلمون أن الإعلام الاجتماعي الآن يَدرس نفسيات المتلقي ومشاعره وأحاسيسه، ووصل الحال لأن نفهم ثقافة المجتمعات وطرق تطورها عبر ما تنشره من معلومات على صفحاتها الاجتماعية، إنها منارة للعقول وطريقة جديدة من طرق التواصل بين الشعوب مهما اختلفت جنسياتها ولغتها فإنها تشترك بإنسانيتها التي تجمعها وتوحدها، هنا يدرك من يشكك أن الإعلام الإجتماعي لا يحتاج للتدريب والممارسة والتطوير في مستوى فهمنا لأدواته وتقنياته المتجددة ، ولذا نحتاج دورًا مساعدًا في أن نقدم أسلوبًا سهلًا للأجيال القادمة في تدريسهم الإعلام الاجتماعي في المراحل الأولى من دراستهم حتى يتكون لنا جيل قادر على فهم أسلوب الإتصال والتوزان بين الحياة الاعتيادية والحياة الافتراضية فلا يُغَلب حياة على حياة وتنقلب الموازين فلنزم الصمت بحياة الواقع أكثر من حديثنا عنه على مواقع التواصل الاجتماعي.
تذكرون حديث وزير الإعلام النازي غوبلز في مقولته الشهيرة: “اكذب ثم اكذب حتى يصدقوك”، هذا ما يجري تمامًا على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي الآن، حيث تسعى منظمات الآن لعرض كم كبير من الشائعات في مقابل أن يصدقها الناس في خطط مؤدلجة تحركها أهداف لتسويق الكذب والمغالطات لتشويه السمعة وخسارة طرف مقابل طرف آخر، أساليب تلك المنظمات عبر استغلال الحسابات الوهمية التي تغير مجرى الرأي العام وتعمم واقع مجتمع كما تريد أجندتها لا حسب ما يعيشه الفرد في مجتمعه، تلك تريد انتشار التفاهة والسطحية فبدلاً من الحديث عن معيشة الناس وانتفاعهم من هذه الحياة تحاول تلك أن تزرع حالات وحوارات عدم الاستقرار في العلاقات بين شعب وآخر بين مذهب وطائفة ما، قد تصطنع حوارًا زائفًا وقد تهول شيئًا صغيرًا لا نراه بأعيننا أنه شيء يستحق حتى أن نتحاور عنه فتجعله حديثًا متداولًا في دولة أو شأنًا عالميًّا في ثوانٍ معدودة.
إننا بحاجة لجهود أكبر على المستوى الإعلامي في أن يكون هناك منبر للكوادر الإعلامية الواعدة تمتلك من خلالها المقومات لفهم ما يجري وتصنع تلك الكوادر للدفاع عن الوطن والهوية والثقافة والمجتمع بشكل عام، الإعلامي الحقيقي ليس فقط من يدرس الإعلام في جامعة أو منشأة تعليمية إنما الإعلامي الحقيقي الذي ينقل الحقيقة وهو القادر على أن يضع تلك القوى التي يمتلكها في المقام والمكان الصحيح ويوظفها متى ما أراد، نعم لدينا كوادر يمكن أن نبني عليها وعلينا أن نبدأ بتأهيلها، التحديات كثيرة علينا والمشاريع والمستقبل طريق نشقه من الآن، ونعول كثيرًا على أن يكون هناك برنامج لتأهيل الكوادر الإعلامية في فن التعامل مع وسائل الإعلام ومع الشائعات وكذلك من إدارة الأزمات الإعلامية خصوصًا أن احتياج واقعنا لذلك كبير وكثرة الطعن في من ينشرون تأصيل الإعلام وفنونه دليل على النجاح ولكن الصمت المطول قد يضعف الكلمة ولسان حال المعادين ممن ينشرون ما لا يثمنون قيمته، أعطني إعلامًا بلا ضمير.. أعطك شعبًا بلا وعي.
———–
مدرب وخبير بمجال الإعلام الإلكتروني