في الغالب لا أؤمن بنظرية نقاء العرق، بكل تجلياتها، لا يوجد ثوار أطهار، وفلول أشرار، وإخوان أغبياء، لا يوجد خير مطلق وشر مطلق، يوجد بشر، ونوعيات، ومعادن، واستثناءات، ودوافع مختلفة، وظروف اجتماعية، واقتصادية، تاريخاني ونسبي، وشكاك، ودائم المراقبة لخصومي؛ ولذلك أقرأ صفحات الفلول ليس للسخرية، ولا لتخمة في الهدوء والراحة النفسية أسعى لتخفيفها بدناءة مؤيدي الجنرال، ولكن للتواصل، يهمني أن أعرف!
الصورة لدى كثير من هؤلاء، وفيهم المخدوع، أن المساجين كذابون، السيسي طيب، عيبه أنه رحيم، وخايف على مصر، وشكلها قدام دول الغرب، يعامل هؤلاء بحنان لا يستحقونه، أما هم، المساجين أعني، فأشرار، أفسدوا حياتنا، كانوا سيأخذوننا لحرب أهلية، وربما كونية، وهلم جرا، عالم مواز، كائنات كوميدية، ربما، لكن علينا ألا ننسى أنهم بدورهم يروننا كذلك، الفجوة تملؤها أجهزة الإعلام، تكذب هنا وهنا، وكل حزب بما لديهم من كذب فرحون!
القاعدة تقول إن المسجون “بني آدم”، وله حقوق، القانون يقول ذلك أيضًا، يتصور شركاؤنا في الوطن أن المساجين يكذبون، وأهلهم يكذبون، وأصدقاءهم يكذبون، وإعلامهم طبعًا يكذب، ومنظمات حقوق الإنسان الأجنبية كذابون، العالم كله كذاب، والسيسي صادق، أكل المساجين: هم يقولون مسمم، النظام يقول فاخر، 5 نجوم؛ إذن فهو فاخر، المعاملة: كمعاملة الأم لأطفالها الرضع، الزنازين: سراير إيطالي، ومراتب أمريكاني، ومرايا بلجيكي، وإضاءات من عند “قنديل”، والسجن فيه spa، و wi-fi، والله العظيم هناك ناس قريبة من تصورات مثل هذه لمجرد أنهم يسمعون توفيق وموسى، وباقي الشلة.
طيب، لجنة حقوق الإنسان، الحلوة، الجميلة، المصري، القومي، أم نسر بين الأحمر والأسود، شغل المعلم لابنه، طلبت تشوف المساجين، وراحت، سيبك من أنهم طلعوا عينهم، مماطلة، وفصال، ورفض، وشروط، ولازم إذن، ولازم نعرف الأول، كل هذا لا يهم، الناس راحوا، وقعدوا، وشربوا الشاي، ولفوا على الزنازين، وقابلوا بعض المساجين، وتكلموا معهم، وانبسطوا، وطلعوا في مؤتمر صحفي، وقالوا إن كل شيء تمام، والسجن مريح، والطعام فاخر، وخيرت الشاطر كان مريضًا، وأخذوه لمستشفى 12 نجمة وأجروا له أشعة بـ 35 ألف جنيه مصري، أكثر من 4000 دولار ثمنًا لمجرد أشعة، وقالوا لهم أيضًا إن “الكانتين” موجود وفي خدمة النزلاء وليس كما يتردد مغلق، وأخبروهم أن “أحدهم” -هكذا دون تحديد “أحدهم”- اشترى لوحده بـ 7000 جنيه!
الأستاذ محمد عبد القدوس، صحفي مصري يتمتع باحترام الجميع، حتى خصوم الإخوان، نجل الأديب المصري الشهير إحسان عبد القدوس، رجل كبير -سنًا ومقامًا- رفض حضور المؤتمر الصحفي، وأصدر بيانًا أمس للتوضيح، قال فيه إن ما جاء في المؤتمر الصحفي كلام فارغ، وإن هذه هي رؤية الداخلية، والمجلس القومي لحقوق الإنسان تبناها، أما الحقيقة فغير ذلك، وقال الرجل إن الأكل الفاخر، مفبرك، ولا يتفق مع ما يعلمه جيدًا بوصفه سجينًا سابقًا، مع أكل السجن، الزيارات كانت ممنوعة، لفترة طويلة ثم سمحوا بها من وراء حجاب، ساتر زجاجي، ممنوع الأطفال يسلموا على آبائهم السجناء، ممنوع الزوجات تطبخ لأزواجهن، الأكل ممنوع، والمشاعر ممنوعة، حتى زيارات الصم والبكم أكثر إنسانية من ذلك.
إدارة السجن تعاملت مع اللجنة -وفقًا لعبد القدوس- بالورق، لا يهم الحقيقة، الحقيقة نسبية، المهم الورق، وطالما الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا؛ إذن كله تمام.
واجههوهم، الزيارات ممنوعة، فعرضوا عليهم الورق، ثمة ورق يفيد بأن “سجينًا ما” زاره أهله، ورآهم، من هو السجين؟ لا يهم، من هم أهله؟ لا نعرف، متى كانت الزيارة؟ التاريخ في الورق، كيف كانت الزيارة؟ مكتوب في الورق، عبد القدوس قال إنهم يسجلون الزيارة في الدفاتر، والأسرة تستخرج التصاريح، ثم لا تتم الزيارة، الواقع: لا زيارة، لكن الورق تمام!
راجع معي: الزيارات ورقها سليم، الدليل: ورق لـ”أحدهم”، الكانتين مفتوح، وورقه سليم، الدليل: ورق لأحدهم، الأكل فاخر، المعاملة فل، أشعة خيرت الشاطر بـ35 ألف جنيه، عملوها على جهاز كشف الغيب وفك السحر والتعاويذ، الدولة لا تعرف الناس، دولتكم التي تؤيدونها تتعامل مع الناس بوصفهم ورقًا، أنت أيضًا ربما تتحول يومًا ما بفعل الصدفة أو الخطأ إلى ورقة، وقتها ستصدق ما يقوله هؤلاء الكذابون، الجاحدون بنعمة الورق.
عبد القدوس، قال إنه يطالب مساواة سجناء الرأي بالجنائيين!، أرجوكم عاملوا المثقفين كما تعاملوا المجرمين، مدير مصلحة السجون رد على عبد القدوس: عندما يشكو السجناء؛ إذن فقد نجحت في عملي!، سيادة الحكمدار متصور أن عمله هو تكفير السجناء وتطليع دينهم، ودنياهم، لماذا يتصور؟ يبدو لي أننا من “يتصور”، و”يتخيل”، و”يهلوس”، متصورًا أنه ثمة دولة، أما مدير “المصلحة” ففاهم شغله، كما علمه رؤساؤه، يؤديه بإخلاص، وأمانة، وورق سليم، ويتعجب من طلبات مساواة عتاة أهل الرأي بالمجرمين “الغلابة”.