لم أعتقد في حياتي أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون شريكًا لأي بلد في لحظة تحوله الديموقراطي أو بلحظة ثورة شعبية ضد نظام قمع يُهدر حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكان عدم ردي الإيجابي- أثناء وجودي بالوزارة خلال الأربعة أشهر الأخيرة من 2012- على طلب من السفيرة الأميركية في القاهرة بزيارتي في مكتبي، ثم عدم الرد على أحد مساعديها بنفس الرغبة نابعًا من هذه الحالة النفسية التي يحق لكل قارئ أن يصفها بأي صفة يشاء بما فيها الصفات السلبية.
فمهما بذلت من جهد عقلي وتأريخي فلن تتمكن من تقديم نموذج واحد لحالة تحرر ساعدت فيها الولايات المتحدة أو حالة تحول ديموقراطي رحبت بها، متخلية عن ممثلي الدكتاتورية. على العكس فإن الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية اختارت الجانب المعتم على مسرح السياسة الدولية لتلعب فيه دور الطرف المهيمن والداعم لكل أشكال الدكتاتورية والذي غض الطرف عن تجاوزات حكومات دموية من فيتنام إلى كمبوديا ومن المنطقة العربية إلى الأميركتين، اللاتينية والجنوبية، فضلًا عن إفريقيا المهيضة التي تُعاني كل أشكال الدكتاتورية والفقر والمرض رغم كل ثرواتها وإمكاناتها.
بل إن الثروة والإمكانات التي تتمتع بها بعض الدول هو ما يشكل عناصر الجذب للسياسة الأميركية الداعمة للدكتاتورية والمناهضة لتطلع الشعوب للحرية؛ حيث تنبني السياسة الأميركية على مسلمات بسيطة وهي: إسقاط مفهوم الدولة عن الكيان السياسي المحكوم بنظام دكتاتوري، ومن ثمّ الانتقال لتصميم علاقة قوية بين الدولة الأميركية والنظام الدكتاتوري، بما يؤدي إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة كدولة والنظام الدكتاتوري كعصابة قمع، بغض النظر عما يؤدي إليه ذلك من إهدار للمصالح القومية للدولة الضحية.
ويمكن، في إطار هذه المسلمات، أن نفهم تصريحات كافة وزراء خارجية الولايات المتحدة خلال حكم مبارك حتى تصريح كيري الأخير في افتتاح الحوار الاستراتيجي بالقاهرة في مطلع الشهر الجاري بشأن تحقيق المصالح المشتركة بين البلدين، فالسياسة الأميركية تختصر البلد الضحية في منظومة الاستبداد ولا تعتد كثيرًا بتطلعات الشعوب؛ ومن ثم فإن تحقيق المصالح المشتركة لا يُقصد بها تحقيق مصالح الشعب، وإنما المجموعة المسيطرة على السلطة والثروة.
وفي ظل نفس هذه المسلمات يمكن تفسير مواقف الولايات المتحدة خلال ثورة يناير التي لم تكن أكثر من محاولة للتعامل مع تطور غير مفاجئ بالنسبة لها بتصريحات علنية تُرضي الثوار، بينما تسعى في الواقع بالتعاون مع أركان دولة مبارك لاستعادة نفس النظام بنفس سياساته وإن بدماء جديدة. وربما إن هذا السبب هو ما أدى مع عوامل أخرى لوقف الحوار الاستراتيجي مع نظام مبارك في 2009 مع شعور الولايات المتحدة أنه نظام تآكلت شرعيته وأصبح غير قادر على القيام بواجبات الشراكة ومن ثم يجب تغيير واجهته مع عدم التفريط في جوهره ودوره الخدمي.
فلم تعبر الولايات المتحدة أبدا عن غبطتها بالتطورات التي لحقت تنحي مبارك، إنما أبدت في مواقف متعددة شعورها بالقلق لدرجة وصلت للتصريح بأن مصر لم تعد صديقة في ذروة انتخابات 2012 الرئاسية؛ ثم لم تُدن أبدًا إسقاط الرئيس المدني في 3 يوليو 2013 وإن أبدت امتعاضها عن طريقة معالجة الاحتجاج التي تلت ذلك، وحاولت التدخل لدى الأطراف المعارضة للانقلاب للوصول لتسوية لم يكن جوهرها سوى القبول بعودة نظام مبارك بأشخاص جدد مع ترك هامش لتحرك معارضة مستأنسة والتخلي عن مطالب التحول الديموقراطي وغض الطرف عن سلوك السلطة الجديدة القديمة الذي يهدر كل حقوق الإنسان والمواطن.
نحن أمام دولة عظمى لأنها- وفقا لقناعاتها- منذ توليها لقيادة النظام الدولي لا تعترف كثيرًا بتطلعات الشعوب وإنما بمدى قدرة الأنظمة المستبدة على تقديم خدمات تتعلق بعدة مسائل لا تتغير في الأجندة الأميركية منذ خمس وستين سنة وتكررت في كلمة كيري الأخير بمناسبة إعادة الحوار الاستراتيجي مع النظام الجديد القديم في مصر تحت عنوان محاولة استعادة الدور المصري سريعًا.
ويأتي في أولوية هذه المسائل، الأمن الإقليمي الذي يعني التماهي مع سياسات الولايات المتحدة وتقديم تسهيلات أمنية وعسكرية تسمح لها بنفسها أو من خلال القدرات الأمنية لدول المنطقة بالحفاظ على توازنات مختلة بين القوى الإقليمية تجعل الجانب العربي دائمًا في الموقف الأضعف والمحتاج للحماية، والعجيب أنها تستعين بالقوى العربية لتحقيق ذلك.
والمسألة الثانية، ضمان اتجاه الوضع الاقتصادي لمزيد من التبعية للنظام الاقتصادي الغربي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة؛ وهو ما يفسر تقدير كيري لمجهود حكومة الانقلاب في تقليل الدعم على الطاقة (الاستهلاكية وليست الصناعية) والبدء في إزالة ما يسميه بالعوائق أمام الاستثمار الأجنبي والذي يعني إنهاء ما تبقى من ضوابط لعمل الشركات المتعددة الجنسية التي تتحكم بالفعل في القدر الأكبر من الاقتصاد المصري منذ العقدين الأخيرين من عهد مبارك.
وكذلك تأكيد الوزير الأميركي على ضرورة تفعيل مصر لوظيفتها في إطار اتفاقية الكويز التي خجلت الصحف المصرية الموالية للانقلاب من الإشارة إليها، لأنها ببساطة تحدد لمصر نطاق التبادل التجاري بالاندماج مع اقتصاديات المنطقة بحيث تدور في فلك الاقتصاد الإسرائيلي المؤهل- من وجهة نظر أميركية- لقيادة منظومة اقتصادية إقليمية تتماهى مع المصالح الأميركية.
والمسألة الثالثة التي يغبط لها كثيرون دون دراية بآثارها، هي التأكيد على التعاون في الابتكارات وحماية براءات الاختراع، والذي لا يعني دعما للبحث العلمي في مصر، وإنما التأكيد على وضعها على هامش نظام الابتكار الدولي الذي يحرمها من امتلاك أي قدرات على الابتكار ويجعلها زبونا مضمونًا على التكنولوجيا الغربية وعلى براءات الاختراعات الأميركية من الدواء إلى وسائل النقل إلى تكنولوجيا الاتصالات. فالنظام الدولي للابتكارات والذي يشمل نظام براءات الاختراع يضمن للولايات المتحدة هيمنة مطلقة بملكيتها لما يزيد على 90% من أصول الابتكارات في العالم سواء براءات اختراع أو معارف تكنولوجيا أو غيرها ومن ثم تسعى باستمرار لتجنيد طاقات الدول التابعة لحماية هذه الثروة.
إننا أمام حزمة من السياسيات الأميركية لا يمكن لأي نظام سياسي قويم ورشيد أن يقوم بها، ومن ثمّ تُدرك الولايات المتحدة أن الانظمة فاقدة الشرعية والمعتمدة على القمع الأمني والمتعطشة لاعتراف واحتضان غربيين بها هي وحدها التي يمكن أن تقبل القيام بهذا الدور الخدمي المهين.
وكأن كلمات رجل السي آي إيه مايلز كوبلاند في سبعينيات القرن الماضي تتردد في أرجاء قاعة انطلاق الحوار الاستراتيجي بالقاهرة مطلع أغسطس 2015: “لقد كنا نتوق إلى حاكم عربي يجمع بين يديه سلطة تفوق لما تيسر لأي حاكم عربي آخر من قبل، حاكم يمكنه اتخاذ قرارات تنفر منها الشعوب وتأباها؛ وكان علينا أن ننشد ضالتنا في رجل متعطش إلى تسلم السلطة، لا يدفعه إليها إلا حب مطلق وشغف فريد بها”..