عامان على مذبحة رابعة، تلك المذبحة التي وضعت فارقًا بين ما هو سياسي وما هو أخلاقي، ما هو براجماتي وما هو إنساني.. سقط الكثيرون في اختبار الإنسانية والمعركة الأخلاقية من أجل مكاسب سياسية قصيرة فشلوا في تحقيقها لعقود، ثم لم يلبثوا أن يجدوا أنهم لم يجنوا إلا سرابًا!
عامان غير الكثيرون فيهما مواقفهم وتحالفاتهم، ولم يثبت على مبدأهم إلا أولئك الذين اعتصموا في ميدان رابعة العدوية! قالوا منذ اليوم الأول أن ما جرى انقلابًا، وأن السيسي يريد السلطة لا الثورة، بينما أقسم غيرهم أغلظ الأيمان بغير ذلك، وأن الميدان مفتوح إذا لم ينفذ خارطة الطريق، ثم انتهى بهم الأمر داخل السجون أو خارج السلطة!
***
-1-
وقبل الخوض في تفاصيل سياسية بسيطة، أو مشكلات حياتية دفعت البعض لرفض سياسات الرئيس مرسي، يجب تقسيم الناس في مصر وعموم المنطقة إلى فريقين:
1- فريق مقاوم لإسرائيل، يقاومها بالسلاح والمال، بالفعل والكلام:
وعلى رأس هذا الفريق الإخوان المسلمون؛ فحركة حماس تحارب إسرائيل وهذه حقيقة لا شك، وكتائب القسام قتلت وأسرت وأثخنت العدو الإسرائيلي كما لم يفعل جيش عربي قط، حتى وصل الحال بهم، وهم محاصرون يتآمر عليهم القريب والبعيد، إلى السيطرة على طائرة استطلاع إسرائيلية وتجنيدها للتجسس لصالح القسام!
2- فريق متحالف مع إسرائيل:
وعلى رأس هذا الفريق الجيش المصري، الذي لم يتحرك أي من قادته -باستثناء الفريق الشاذلي رحمه الله- حينما زار السادات القدس، ووقع اتفاقية العار مع الصهاينة. بعدها تحول الجيش إلى فرق مسلحة تحمي قناة السويس وأمن إسرائيل، ويتلقى سنويا 1.3 مليار دولار من أميركا ثمنًا لذلك.
وقد خصصنا مقالًا سابقًا لسرد التصريحات الحميمة المتبادلة بين الصهاينة والجيش المصري، نذكر منها هنا فقط تصريح السيسي لقناة “فرانس 24” أنه لن يسمح بتهديد أمن إسرائيل، وتصريحه لصحيفة “واشنطن بوست” أنه يتحدث مع نتنياهو كثيرًا!
ولا شك أن مجيء رئيس من الإخوان المسلمين للسلطة في مصر لم يعجب قادة إسرائيل، ولا قيادة الجيش في مصر المتحالفة معها، والتي رأت في انتخاب مرسي خطرًا بالغًا، ليس فقط على نفوذهم الاقتصادي والسياسي في مصر (يسيطر الجيش حسب واشنطن بوست على 60% من الاقتصاد المصري)، بل على وجه المجتمع ككل، المهدد بانتخاب مرسي بنزع غطاء العلمانية والتبعية لأميركا عن الدولة المصرية، وزرع بذرة التصنيع والاكتفاء الذاتي!
***
-2-
أجهزة الدولة العميقة لم تكن متعاونة مع الرئيس مرسي.. هذه حقيقة أخرى لا يجب القفز عليها! وهو من ناحية أخرى كان لا يملك أي أداة قوية لتنفيذ قراراته. ومن ناحية ثالثة كان الإعلام المعادي لثورة يناير يحرض المصريين بكل ما أوتي من قوة ذاتية ودعم خارجي للانقلاب على الرئيس مرسي.
لو كانت المشكلة حقًا متمثلة في الرئيس مرسي فقط، لكان من السهل انتظار انتخابات مبكرة كنا على وشك إجرائها بعد شهور، لو لم ينقلب الجيش على أول رئيس منتخب، لكن الهدف المراد كان إعادة المصريين إلى بيت الطاعة وعودة السلطة إلى أحضان الجيش بعد تجربة ديمقراطية يسيرة لمدة عامين، أثبت الإخوان أنهم نتيجتها في كل مرة!
***
-3-
إن رفض الإخوان للانقلاب لم يكن حرصًا على الكرسي كما يريد السيسي ومن معه أن يصوروا، بل كان مسألة مبدأ، كي لا يخرج بعض الناس -زاد عددهم أو كثر- على أي رئيس بعد ذلك لتهديده بترك السلطة أو الانقلاب عليه بتهديد السلاح!
لو كان الإخوان يفكرون في مصلحتهم الخاصة لوافقوا تحت تهديد السلاح على إجراء انتخابات مبكرة، أو لما ترشحوا أصلًا للرئاسة، وقبلوا باقتسام الكعكة مع المجلس العسكري. لكن الإخون وعلى رأسهم الرئيس مرسي كانوا يقدمون مصلحة مصر على مصلحة الإخوان، وقيمة الثورة على قيمة الحزب السياسي.
ومع المفاوضات التي تمت في الفترة من بيان الانقلاب وحتى فض الاعتصام، جرت محاولات كثيرة للوساطة، بعضها على أساس الشرعية، وبعضها على أساس الانقلاب. كان الإخوان منفتحين على الجميع بشرط ألا يصبح منصب الرئاسة مطية لكل صاحب بندقية، ولم يمانعوا في انتخابات مبكرة بشرط أن يتم الإعداد لها وأن يجرى قبلها انتخابات برلمانية حتى لا يحدث فراغ دستوري، ولضمان أن تظل السلطة بيد الشعب، لا بيد العسكر!
ورغم انفتاح الإخوان على كل هذه المبادرات، فقد ألقي بها من النافذة كما اعترف البرادعي نفسه؛ لأن المشكلة لم تكن مرسي وإنما العملية الديمقراطية التي أتت به، والمراد لم يكن انتخابات مبكرة وإنما الانقلاب على كل منتجات ثورة يناير (رئيس- برلمان- دستور) فضلًا عن الحق في الحرية!
لو كان دعاة الانتخابات الرئاسية المبكرة يريدون مصلحة الوطن حقًا، ولو كانوا بالملايين كما يدعون، لقبلوا دعوة الرئيس مرسي في إبريل 2013 لإجراء انتخابات تشريعية، تُنتج برلمانا يمكنه -وفق الدستور المستفتى عليه- عزل الرئيس ومحاكمته! لكنهم يعلمون أنهم لا سبيل لهم إلى السلطة إلا عبر الانقلابات العسكرية، والتحالف مع نظام ثار عليه المصريون!
كان هذا الفهم موجودًا لكل المعتصمين في رابعة من الإخوان وغير الإخوان، وكانوا مستعدين لدفع أرواحهم ثمنًا لذلك، وكانوا يسبقون القيادات في هذا الخيار، فكل من قرروا الاعتصام جاءوا بكل طواعية واحتملوا الحر والصيام والمكوث في شوارع القاهرة في الصيف، رغم احتمال أن يطالهم رصاص الجيش.
***
-4-
لقد كان المعتصمون في رابعة يستحضرون في مخيلتهم خلفية تاريخية لا ينتبه لها كثيرون، عندما انسحب المتظاهرون من أمام قصر عابدين في أزمة مارس 1954، عندما خرجوا يطالبون العسكر بالديمقراطية، وانصرفوا إثر وعود من العسكر بإجراء انتخابات! ولم تمض ستة أشهر حتى كان عبدالناصر يفتعل حادثة المنشية في أكتوبر من العام نفسه، وينفرد بالسلطة، ليحكم على مصر بالبقاء تحت نير الحكم العسكري 60 عامًا! لقد كان جميع الإخوان يدركون أنهم إذا انصرفوا يكررون خطأ 1954!
ورغم أن قادة الجيش بارتكابهم مذبحة رابعة قاموا بأكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر، إلا أن مصير انقلابهم في 2013 مهدد -بسبب هذه المذبحة- بالعمر القصير، عكس انقلاب 1954 الذي حكم 60 عامًا! وظلال هذه المذبحة تضايقه في أميركا وتفضحه في ألمانيا وتمنعه من السفر إلى جنوب إفريقيا!
لن تجد شخصًا حضر اعتصام رابعة أو كان مؤيدًا له، تراجع عن موقفه وقال لقد كنت مخطئًا، لكنك ستجد كثيرين كانوا مع السيسي وتركوه بعد أن ثبت أنه تلاعب بهم، وأنه لم يكن يريد إلا الحكم والسلطة! أو بعد أن قضى منهم حاجته وأودعهم السجون!
***
-5-
ختامًا:
لقد كان اعتصام رابعة صرخة في وجه الظالمين والفاسدين، وموقفًا حرًا ضد الصهاينة وأعوانهم في مصر، وطلبًا للتوقيع بالدم على وثيقة الثورة الرافضة لكل ما هو صهيوني وكل ما هو استبدادي!
وانقلاب 2013 انتصار للصهاينة الذين فرحوا به كثيرًا، وطالبوا العالم كله بدعمه -كما قال إيهود باراك لـCNN بعد الانقلاب بفترة وجيزة- كيف لا والانقلاب سحق الإخوان وهجر أهالي سيناء، وغير عقيدة الجيش من أن إسرائيل هي الحرب إلى محاربة الإرهاب!
لكنها جولة في الحرب نحو تحرير كامل فلسطين، وتحرير المسجد الأقصى المبارك، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهذا لن يتحقق إلا برحيل طاغية مصر السيسي، وطاغية الشام “بشار” وطاغية الأردن عبدالله. هكذا يجب أن تعرض القضية، وهكذا يجب أن نحكي الحكاية!