رغم بشاعة مذبحة فض ميدان النهضة، إلا أنها لم تحظ بالزخم الإعلامي ولا ردود الأفعال كما حدث مع مذبحة فض ميدان رابعة العدوية، فقد استخدم السلاح نفسه في الفض، وتم قتل المعارضين بنفس الطريقة وحرق الجثث والتنكيل بالمعتقلين وقتل المصابين.
اختلفت الروايات حول العدد الدقيق لضحايا فض “النهضة”، ففي الوقت الذي تحدثت فيه تقارير ميدانية وشهادات من داخل المستشفى الميداني عن سقوط أكثر من 100 شهيد، إلا أن موقع “ويكي ثورة” المعني بتوثيق أحداث الثورة، أكد أنه وثق استشهاد 88 داخل الميدان، فيما وصل عدد الشهداء بمحافظة الجيزة بشكل عام إلى 192 بخلاف المئات من الإصابات.
ويرى قيادات بالتحالف الوطني لدعم الشرعية، أن التجاهل الذي شهده اعتصام النهضة كان بسبب عدم وجود قيادات كبيرة داخل أروقة الاعتصام، إضافة إلى أن العدد الأكبر من المعتصمين والضحايا، كان في ميدان رابعة.
قيادات الإخوان
أكد الدكتور خالد سعيد، المتحدث باسم الجبهة السلفية، أن شهداء مصر جميعًا في قلوبنا، وأن الشهداء منذ ثورة 25 يناير شهداء لمصر، وأضاف أن مذبحة رابعة كانت المذبحة الأكبر والأفظع لعدد الشهداء الكبير وفظاعة الوضع هناك، مضيفًا “تواجد قيادات جماعة الإخوان المسلمين على منصة رابعة باستمرار كان السبب الأساسي في تزايد الأعداد هناك وتواجد الوسائل الإعلامية بصورة كبيرة”.
ويروي الدكتور أحمد جمال، شاهد عيان من داخل “النهضة”: أبرز ما رأيت يومها كانت لحظة استشهاد الشيخ “أحمد أبو الدهب” وهو أحد معتصمي النهضة من منطقة أطفيح، وكان يعمل محفظًا للقرآن الكريم، تعرفنا عليه في الاعتصام لجلوسه في خيمة بجوارنا، وهذا الرجل لم يكن يُرى إلا واقفًا إما يصلي أو واقفًا في الحراسة، وكان شديد التواضع دمث الأخلاق، ولم يترك الميدان تمامًا منذ بدء الاعتصام، ولم يوافق حتى على تركه في العيد ليرى أهله، بل إن زوجته وأولاده هم من جاءوا لزيارته ليلة العيد.
وأضاف، كان الشيخ “أبو الدهب” دائمًا في المقدمة وكأنه يبحث عن الشهادة، وصلى بنا الفجر يوم المجزرة جماعة، وبعد بدء المذبحة وأثناء خروجه من جراج كلية الهندسة جاءته رصاصة من أعلى في الرأس مباشرة أدت إلى خروج مخه بالكامل من رأسه وأغلب الظن أنها كانت رصاصة نصف بوصة.
خدعة الممر الآمن
ويتابع الدكتور جمال: عند محاولتنا الخروج من الميدان لاحظنا وجود قوات متمركزة أعلى كوبري الجيزة، وقد ظلت ساكنة ما يقرب من نصف ساعة، ثم بدأت في الضرب، وعندها ركضنا في الاتجاه بالقرب من مسجد الاستقامة، وحينها تم قنص ثلاثة من بيننا على باب المسجد وارتقوا سريعًا إثر إصابات بالرصاص الحي في الرأس مباشرة.
وحول أكذوبة “الممرات الآمنة” يقول الدكتور جمال” :إنه لم يكن هناك أي ممر آمن للخروج؛ بل على العكس ما حدث؛ حيث دخلت القوات من منطقة “بين السرايات” ومن المنطقة أمام تمثال النهضة، أما طريق ميدان الجيزة فقد كانت القوات تمركز أعلى الكوبري ولذا فقد كان الضرب مستمرًا من منطقة التمثال ومن أعلى كوبري الجيزة.
وعن شكل الإصابات، يؤكد أن أغلب ما رآه يومها داخل الميدان كانت إصابات حية في الرأس مباشرة، وتتنوع نوع الطلقات -بحسب علمه- إلى نصف بوصة مثل مواسير المياه الرفيعة أو في حجم أصبعين متلاصقين، وهذا يكون من الرشاشات الثقيلة “الجيرانوف” والتي تثبت فوق المدرعات، أو من الطائرات، وهذه الرصاصة تُفجر الرأس مباشرة أو تقطع العضو وتبتره تمامًا أيًا ما كان ذراعًا أو قدمًا أو أي عضو آخر، أما الإصابات الأخرى التي رأيناها فهي من الرصاص الـ12م وهذا كان يكثر من ناحية حديقة الأورمان، كذلك كان أغلب الرصاص في ميدان الجيزة 12م، وفي منطقة نصر الدين أو نفق الهرم التي ذهبنا إليها بعد ذلك وجاءها المتظاهرون بكثافة، فقد كان الرصاص هناك متنوعًا ما بين رصاص رشاشات كان يأتي من أعلى العمارات -عمارات جديدة كانت تحت الإنشاء- ومن أعلى محطة المترو، وأيضًا من فوق عمارتين يمين نفق الهرم، وهناك شاهدت إصابات بالغة لأطفال، من بينها طفل جاءته رصاصة مباشرة فقطعت قدمه، وطفل آخر عمره نحو 12 عامًا، اخترقت رصاصة منطقة البطن لديه. هذا بخلاف الكثير من الشباب انفجرت رأسه بالكامل.
وعن شهادتها، تقول ندى جمال” مخرجة سينمائية” وإحدى المحتجزات بكلية هندسة جامعة القاهرة خلال فض ميدان النهضة: في الساعة الخامسة والنصف صباح يوم المجزرة بدأ رجال تأمين الميدان بالمرور على خيام المعتصمين لإيقاظهم من النوم وأمروهم بإخلاء الخيام من الأطفال والسيدات تحسبًا لأي هجمات يشنها الأمن، وفي الوقت نفسه تمكن بلطجية النظام العسكري من الاستيلاء على حديقة الأورمان ونشروا فيها القناصة وقوات الأمن بالزي المدني بالأسلحة الثقلية وحصارها من الداخل.
وأضافت “في السادسة والنصف وجدنا مدرعات جيش وشرطة تتحرك من أمام مديرية أمن الجيزة، وعدد من الجرافات تقترب من ميدان النهضة وبالفعل بدأ ضرب أول قنبلة غاز من أمام تمثال النهضة ثم سرعان ما سمعنا وابلًا من الرصاص الحي”.
السماء تمطر رصاصًا
وتتابع: كان الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ غير قادرين على مواجهة قنابل الغاز، فتوجهوا نحو المنصة وبمجرد الوصول لبوابة كلية هندسة حاصرتنا قوات جيش والداخلية بإطلاق الرصاص الحي في الوقت الذي بدأ الضرب فيه من جهة حديقة الأورمان ومن جهة تمثال النهضة وأصبح المعتصمون محاصرين من كل الاتجاهات وكأن السماء أمطرت رصاصًا حيًا وقنابل غاز، وبدأت طيارات الداخلية تحلق من فوقنا من مسافات قريبة جدًا في تمام السابعة صباحًا، ولأن المنصة موقعها قريب من الباب الثاني لهندسة قام الآلاف من المتظاهرين بالاحتماء فيها من وابل الرصاص والقناصة والبلطجية وتوجهنا لأحد المباني بالكلية بالدور الأول.
وتستطرد: توالت ملاحقات الداخلية بمحاصرة كلية الهندسة بقنابل الغاز الكثيف وإلقائها على المتظاهرين بالاستعانة بالطيارات، لم يتحمل الأطفال والنساء رائحة الغاز الخانق والمحرم استخدامه دوليًا، الأمر الذي دفعنا لمغادرة المبني خوفًا من الموت مخنوقين برائحة الغاز السام، وحينما توجهنا للمبني الآخر، والذي كان بحيرة من الدماء، لم أر في حياتي هذا العدد الرهيب من الجرجي والشهداء، طرقات المبنى مليئة بالدماء والأشلاء، آلاف المصابين يستنجدون بمن يسعفهم، عدد قليل من الأطباء يعملون على إسعافهم وسط وابل من القنابل والرصاص وبكاء الأهالي والأصدقاء.
وتواصل “ندى” شهادتها: “في الظهيرة بدأ الهجوم يتزايد باستهداف الشبابيك لكشف المتظاهرين بالداخل ومنع الأطباء من إسعاف المصابين وكان وقتها أحد المصابين من أولتراس نهضاوي مصاب برصاص حي في الحوض وكان يتألم ويصرخ واستطاع الدكتور وقف النزيف، وقتها أمرنا المتواجدين بالانبطاح أرضًا حتى لا نتعرض للأذى“، ثم جاءت أنباء تم ترويجها بأن مدير أمن الجيزة وعد المعتصمين بالخروج الآمن، ولكن بمجرد خروج بعض الشباب كان يتم سحلهم من البلطجية واعتقالهم على الفور، فقررنا أن نظل داخل كلية هندسة حتى لا يتم الغدر بنا كما حدث مع الآخرين، وعدم التخلي عن المصابين بالداخل، وفي هذا الوقت كان المستشفى يعاني من نقص الإمكانيات الطبية ولا توجد أي مسكنات.
قنابل حارقة
وتكمل “ندي”: في الساعة الرابعة عصرًا اشتد قصف المستشفى الميداني بالقنابل الحارقة من خلال الطائرات ومدرعات الشرطة، وخرج مجموعة من الشباب لمعرفة الأوضاع بالخارج ولكن نالتهم طلقات قناصة في الصدر والرأس وحاولنا إسعافهم ولكن ارتقى منهم الكثير شهداء، وقامت النساء وقتها بمساعدة الأطباء والشباب في تأمين المبنى من الخارج.
في الخامسة مساءً، بدأ الضرب الناري بالمدرعات التابعة للجيش والشرطة، كان المستشفى تحول لمشرحة ليلية، يفترش المصابون والشهداء طرقات مباني كلية الهندسة، وبعد مرور ساعة من الصمود أمام مدرعات الجيش وجثامين الشباب العاري أمام رصاصها بدأت تدخل الدبابات لمحيط الحرم الجامعي.
في تمام الساعة السادسة، قام الشباب بمحاولة إنقاذ المصابين بحملهم على الأعناق والخروج بهم خوفًا من إحراقهم مثلما فعلوا بعدد من الشباب بمحيط ميدان النهضة، وقام الشباب بإغلاق الأنوار وإظلام الطرقات حتى تتعثر حركة القناصة خلال اقتحامهم المبنى ومحاولات حرقهم بالبنزين.
وختمت: خرجت أنا وأسرتي وعدد من الأسر من المبنى بمساعدة البلطجية في الساعة الثامنة مساءً، وكان البعض الآخر من البلطجية يقتحمون مدرسة السعيدية لسرقة محتوياتها.