زحف المجاهد المصري محمد سلطان ابن محافظة الشرقية على بطنه، وهو يحمل لُغما ثقيلا، ووجهته أحد مراكز الحراسة في مستعمرة “كفار داروم” الاسرائيلية ذات التحصينات الدفاعية العالية.
وفجأة انتبه الحراس إلى “سلطان” وهو على مسافة خطوات من هدفه، فأمطروه بالرصاص الذي مزق ذراعه وأعجزه عن مواصلة الزحف.
لكن البطل تحامل على نفسه وسط طلقات الرصاص التي اخترقت جسده ورغم دمائه التي تفجرت، حتى وصل إلى هدفه وفجّر مركز الحراسة، وفاضت روحه إلى بارئها.
• بطل ذلك المشهد هو أحد أبناء جماعة الإخوان المسلمين في معركة شهيرة دارت رُحاها على أرض فلسطين المحتلة عام 1948م، عُرفت باسم معركة “كفار داروم”.
الحقيقة تقول: أن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين قد هبّوا لجهاد الصهاينة والذود عن تلك الأراضي المقدسة، ليس فقط من مصر، ولكن خرجوا من الأردن بقيادة الشيخ “عبد اللطيف أبو قورة”، ومن العراق تحت راية الشيخ “محمد الصوّاف”، ومن سوريا بقيادة (مُصطفى السباعي) مرشد الجماعة في دمشق، ومن عدة أقطار عربية ومنها فلسطين.
خرجوا رغم معارضة الأنظمة العربية، والتي اضطرت تحت ضغط الشعوب إلى السماح لكتائب الإخوان بدخول فلسطين.
كان الغرب يعي جيدا أن الإخوان المسلمين لا يوجهون سلاحهم للداخل، وإنما يُشهرون سيوفهم في وجوه أعداء الأمة.
في كتابه “جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين” نقل حاتم يوسف أبو زايدة عن جريدة (الصانداي) مقطعا من مقالة لها في أواخر عام 1947م، جاء فيها: “إن الإخوان يحاولون إقناع العرب بأنهم هم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعا، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض، والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شؤون الشرق الأوسط، وأن اليهود الآن هم أعنف خصوم الإخوان”.
لقد نفّذَ الإخوان المسلمون حرب عصابات ضد المستعمرات الاسرائيلية كانت نتائجها مبهرة، بينما كان موقف الحكومة المصرية مُخزيا، حيث بعد أن حقق الإخوان تلك الانتصارات، طلبت الحكومة من المركز العام للإخوان بالقاهرة سحب عناصره من الجبهة، فرفضوا، فعمدت الحكومة إلى قطع الإمدادات عنهم، وكثفت من مراقبة الحدود حتى لا تصل أية إمدادات إلى المجاهدين الذين صمدوا وعاشوا على التمر والماء ويسير من الخبز.
• وبتواطؤ من حكومة النقراشي باشا مع أمريكا وبريطانيا، أصدرت الحكومة قرارا بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها في الثامن من ديسمبر عام 1948م، في الوقت الذي كانت فيه كتائب الإخوان على الجبهة في فلسطين، وقامت باعتقال عناصر الإخوان في مصر.
ورغم أن المجاهدين على الجبهة قد وصلهم خبر حل الجماعة والاعتقالات، إلا أنهم استمروا في قتالهم ضد العدو، ودعموا القوات المصرية الموجودة هناك، وأما من عاد منهم إلى وطنه، فكانت السجون في انتظاره.
• اللافت للانتباه، أن جماعة الإخوان بما كان لها من شعبية جارفة، وقوة عسكرية وتنظيمية، إلا أنهم لم يحملوا السلاح ضد الحكومة الجائرة رغم قدرتهم على ذلك.
وذلك لأن جماعة الإخوان لها منهجها الواضح للوصول إلى التمكين، من خلال تاريخها منذ النشأة ولم تحمل سلاحا في وجه الأنظمة والحكومات فضلا عن المجتمعات.
فالجماعة تؤمن بشمولية الإسلام، فلم تقتصر دعوتها على جانب دون الآخر، واتخذت من العمل السياسي قاطرة تقود مؤسسات الدعوة ومجالاتها، وهي التي بُني عليها مصطلح الإسلام السياسي.
لقد كان المبرر موجودا أمام الإخوان عندما غدرت بهم حكومة النُقراشي إبّان حرب فلسطين 1948م، لكي يحملوا السلاح، لكنهم لم يفعلوا رغم حملات الاعتقال والبطش.
ولم يفعلوا خلال محنتهم في عهد عبد الناصر، عندما كان يمارس ضدهم التصفية الجسدية، وفتح أبواب المعتقلات على مصارعها، وأحدث بعناصرها المجازر، وتعرضوا على يد زبانيته لأبشع ألوان التعذيب.
• وبعد الانقلاب على نظام الإخوان الممثل في شخص الرئيس محمد مرسي، تعرض أبناء الجماعة وحتى اليوم إلى ما استشرفه حسن البنا رحمه الله، والذي كان ينظر بعُمقٍ إلى سُنَن النصر والتمكين وواقع الدعوة وبيئتها، فقال:
(أيها الإخوان سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله.
وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذو الجاه والسلطان وستقف في وجوهكم كل الحكومات، على السواء وستحاول كل حكومة أن تحُدّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.
وسيتذرع الغاصبون بكم لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيادي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان.
وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بدعوتكم كل نقيصة وأن يظهروها للناس بأبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتمدين بأموالهم ونفوذهم وإعلامهم.
وستدخلون بذلك لاشك في التجربة والامتحان: فتسجنون، وتقتلون، وتعتقلون، وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتُفتش بيوتكم.
وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، فهل أنتم مستعدون أن تكونوا من أنصار الله؟ “الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” [العنكبوت: 1 – 3].
• ولا حاجة بنا إلى أن نُسقط بالتفصيل كلماته على واقع الجماعة اليوم، فالأمر جدّ واضح لا يحتاج إلى مزيد من البيان او التبيين.
الإخوان لا يزالون حتى اليوم ينتهجون السلمية رغم المجازر والاعتقالات والتصفية الجسدية والتشريد والتعذيب ومصادرة الأموال والملاحقة، وهو الأمر الذي أثار سخط بعض أبناء الجماعة، وأثار في الوقت ذاته سخرية التنظيمات الجهادية التي تعيب على الإخوان سلميتهم.
• وأما ما ينسب إلى الإخوان من تفجيرات وأعمال عنف، فهو من باب التدليس على الشعب، حيث تنسب حكومة الانقلاب الأعمال التي ينفذها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) – وكذلك العمليات المشبوهة التي يُشتبه في كونها أعمالا مخابراتية – إلى جماعة الإخوان، وهو الأمر الذي استطاع الإعلام في خُبثٍ أن ينجح في ترويجه..
• نعم هناك أعمال فردية يقوم بها بعض الأشخاص الموتورين أو المقهورين أو المُتهوّرين من الجماعة، لكنها كما قلت تحدث بصفة فردية.
وإلا، لو كانت الجماعة قد تراجعت عن سلميتها، فلماذا لا تُشكّل سرايا أو فصائل وتشنّ حرب عصابات ممنهجة (طويلة الأمد)؟
لماذا لم يحمل شباب الإخوان السلاح ويخوضوا مواجهات مع الجيش والشرطة، علما بأنهم يعلمون يقينا أنهم مُعرّضون للتصفية في أي وقت؟
• إن إصرار الإخوان المسلمين في مصر على السلمية (بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر في تقييمه) يدحض التشكيك في وطنيتهم أو القول بأنهم يؤثرون المصلحة الحزبية على المصلحة العامة لوطنهم.
لم يشأ الإخوان تكرار سيناريو الجزائر الدامي، وتجنبوا إدخال البلاد في أُتون حرب أهلية يسعى خصومهم لجرهم إليها، وآثروا أن يتحملوا الضريبة وحدهم.
• ورغم اعترافي شخصيا بأخطاء الإخوان، إلا أنها كانت أخطاء إدارية، من سوء تقدير للحالة المصرية، وعدم إدراك قوة الدولة العميقة، إلى جانب عدم استيعاب الفصائل الثورية الأخرى ونحو ذلك، لكن ما يحدث للإخوان لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع حجم هذه الأخطاء.
الموقف في منتهى السوء بالنسبة للإخوان، والصورة قاتمة، ومع ذلك لم يتبنّوا العنف كاتجاه عام في مسيرتهم، وبرأيي أن استمرارهم على هذا النحو، لن يخلو من تحقيق مكاسب:
أولها: أن هذه السلمية ستكون بابا لاستعادة بعض من شعبيتها لاحقا.
ثانيها: أنها تمنحهم الفرصة لكي يكونوا طرفا في أي تسوية سلمية أو مسار توافق وطني.
ثالثها: أنها تؤهلهم ليكونوا جزءًا هاما في أي إطار للقوى الثورية الأخرى يتجه نحو إعادة مكتسبات ثورة يناير وتصحيحها.