انتهت المفاوضات حول الملف النووي الإيراني بعد جولات عديدة جابت الكثير من عواصم العالم باتفاق لم يُنْهِ الجدل حول البرنامج؛ وبينما ركزت القوى الدولية على المكاسب الاقتصادية التي يمكن تحصيلها من جرائه، ومدى التزام إيران ببنود الاتفاق وضمانه لعدم امتلاكها القنبلة النووية، فإن التساؤلات في الشرق الأوسط انصبت على انعكاسات هذا الاتفاق على المنطقة، وتأثيراته على الصراعات المتأججة فيها.
يذهب جُلُّ القراءات في هذا المجال إلى ترجيح الانعكاسات السلبية للاتفاق النووي على أزمات المنطقة، نظرًا إلى عوائده الكبيرة على الاقتصاد الإيراني؛ التي ستجعل النظام السياسي في أريحية داخليًّا، وما يترتب عليها من تعزيز إمكانيات إنفاقه على حلفائه؛ بما في ذلك استقدام المرتزقة؛ وذلك إلى جانب التمكين الغربي لإيران والاعتراف بدورها الإقليمي؛ مما يرجح مواصلة طهران سياساتها في الشرق الأوسط.
وما صرَّح به المرشد الأعلى علي خامنئي بعد أيام عن الاتفاق يؤكد هذا، حيث قال: إن مواقف بلاده من الولايات المتحدة الأميركية لن تتغير، وإنها لن تدخل في مفاوضات معها حول قضايا الشرق الأوسط(1). وأيضًا ما تم تداوله من أخبار كإعلان البحرين إحباط عملية تهريب أسلحة ومتفجرات من إيران عبر البحر، واعتقال منفذيها، فضلاً عن تصريحات قيادات النظام السوري وحزب الله؛ التي تحدثت عن دعم أكبر من النظام الإيراني لها في الأيام القادمة.
أما التوجه الإصلاحي للرئيس الإيراني فلا يمكن المراهنة عليه أيضًا في هذا الجانب؛ إذ لم يوجه روحاني أية إشارات خلال الفترة الماضية تكشف عن سعيه لتغيير السياسة الإيرانية تجاه العديد من الأزمات الإقليمية، على غرار الأزمتين السورية واليمنية؛ فعلى الرغم من أنه حاول تقليص حدة التوتر في العلاقات مع بعض دول المنطقة، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، فإنه كان حريصًا في الوقت ذاته على التماهي مع الاتجاهات العامة؛ التي تحكم موقف إيران إزاء تلك الأزمات، حتى إذا رغب في ذلك فإن المرشد الأعلى نفسه لن يسمح بتوسيع نطاق نفوذ رئيس الجمهورية، لاسيما في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، تجنبًا لمواجهة عواقب قد لا تلقى ارتياحًا من جانبه(2)، وقد يكون الشرق الأوسط ضحية صفقة بين المحافظين والإصلاحيين؛ حيث يتولى الرئيس ملف العلاقة مع الغرب في حين يواصل المحافظون سياساتهم في المنطقة بالنهج نفسه؛ نظرًا إلى تشابكها مع خلفياتهم الأيديولوجية؛ وفي ظل هذه المؤشرات فإن الإشكالية التي تُطرح هي:
إلى أي مدى يمكن للاتفاق النووي أن يعزز النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط؟
تجادل هذه الورقة بأن الاتفاق النووي سيطيل من أمد أزمات المنطقة دون أن يعكس تمددًا أكبر لإيران في الإقليم؛ لأن النفوذ الإيراني بلغ أقصى حدوده، وإذا ما زاد أكثر فلا يكون ذلك على حساب دور إيران في الشرق الأوسط فقط، وإنما من المحتمل أن تكون له ارتدادات على المستوى الداخلي أيضًا، وهذا بناء على المؤشرات التالية:
مسألة وجود
سارع نصر الله إلى تأكيد استمرار الاعتماد على الدعم الإيراني لحزبه بعد الاتفاق النووي، وأن إيران “ستفحم” منتقدين يقولون: إنها ستوقف دعمها لحزب الله. مضيفًا: إن “علاقات إيران مع حلفائها تقوم على أرضية فكرية وتسبق المصالح السياسية”(3). وبالنسبة إلى النظام السوري فقبل الاتفاق حرصت إيران على توقيع اتفاقية خط تسهيل ائتماني جديد مع سوريا بقيمة مليار دولار في 19 من مايو 2015، وهو ما يشير إلى إصرارها على مواصلة دعمها للنظام السوري، على الرغم من الانتكاسات العديدة التي مني بها في الأشهر الأخيرة، وتشير تقديرات المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إلى أن إيران تنفق ما يقرب من 6 مليارات دولار سنويًّا لدعم نظام الأسد؛ وذلك في حين ترى اتجاهات أخرى أن الدعم الإيراني ربما يتجاوز هذا الرقم بكثير، خاصة في حالة ما إذا تم تقدير قيمة خطوط الائتمان، وتكاليف استقدام مقاتلين أجانب للمشاركة في الحرب إلى جانب النظام السوري، فضلاً عن المساعدات النفطية الإيرانية لسوريا؛ التي تتراوح ما بين 3.5 إلى 4 مليارات دولار سنويًّا(4)؛ لكن بالنسبة إلى ميليشيات الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن؛ فهم يحتاجون من إيران إلى دعم سياسي بدرجة أولى، وعسكري بدرجة ثانية (خاصة في مجال التدريب والقيادة) أكثر من حاجتهم إلى الدعم المالي؛ لأن الحشد مدعوم ماليًّا من طرف الحكومة العراقية؛ فضلاً عن الغطاء الديني من المرجعية الشيعية، والحوثيون يقف إلى جانبهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح وجزء من الجيش اليمني، والإنجازات التي حققوها في الفترة الماضية تعود إلى هذه العلاقة.
يقود التركيز على البُعد المادي -على أهميته- في تقييم مدى النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط إلى إغفال البُعد البشري؛ الذي يعد أكثر أهمية؛ لأن مصير الصراعات يتحدد على أساسه؛ فالمسألة تجاوزت التكاليف المادية إلى التكلفة البشرية، وعند المقارنة في هذه الحالة تشير التقديرات إلى أن الأزمة السورية خلَّفت بعد خمس سنوات على بدايتها أكثر من مائتين وثلاثين ألف ضحية، ناهيك عن المدن المدمرة والملايين من اللاجئين، ولا شك أن حجم الخسائر البشرية بالنسبة إلى المعارضة أكبر بكثير من نظام الأسد وحزب الله والميليشيات العراقية الشيعية؛ لكن هذه التكلفة لم تُثْنِ المعارضة عن مواصلة حربها ضد النظام السوري وحلفائه، كما لم تمنع الخسائر البشرية لمعارضي الحوثيين وعبد الله صالح في اليمن أيضًا من خوض الحرب ضدهم، والأمر نفسه بالنسبة إلى العراق؛ وإن كانت المسألة هناك أكثر تعقيدًا؛ لكن بعد هذا القدر من الخسائر البشرية في المقام الأول، والمادية في المقام الثاني لا يُنتظر تراجع من طرف القوى المعارضة، كما لا يُتوقَّع من عنف أكبر أن يقابله استسلام، وبذلك فمهما زاد دعم إيران المالي وحتى العسكري لحلفائها فإنه لا يستلزم بالضرورة أن ينتج عنه نفوذ أكبر لها في أية ساحة من ساحات المواجهة.
وفي السياق نفسه، فإن الروح المعنوية، على الرغم من كل الخسائر البشرية للمعارضة السورية، في ارتفاع مستمر؛ ذلك أنها ترتبط بالتشبث بالأرض، والثأر للدم الذي سُفك من طرف النظام، الذي يدفع إلى الصبر وتحمُّل أهوال الحرب، في المقابل وعلى الرغم من انطلاق حلفاء طهران أيضًا من خلفية دينية طائفية في حربهم؛ فإنها لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى تلك الروح عند مقاتلي المعارضة. كما أن المبررات الأخلاقية للحرب في تهاوٍ مستمرٍّ؛ نظرًا إلى عدم القدرة على التوفيق بين الخطاب الموجه للأتباع، والرأي العام العربي والإسلامي في ظل الحرب الإعلامية، فلا يمكن على سبيل المثال أن تكون روح مقاتَلة العدو الصهيوني هي نفسها تلك التي يقاتل بها عناصر حزب الله في سوريا، ومؤشرات ذلك تظهر في تململ حاضنة الحزب، وسخط عائلات القتلى، وحالات التمرد، ورفض سياساته من طرف بعض القيادات، كما أن طول الحرب وعدم وضوح نهايتها والخسائر البشرية التي لم يعهدها الحزب لا يمكن أن تُعوَّض بأي مقابل مادي، وإيران كانت تدرك هذا الأمر؛ فالانخراط في القتال الميداني كان متدرجًا؛ إذ انحصر بداية في الخبراء الإيرانيين، والتدخل في مناطق محدودة من طرف حزب الله ولواء أبي الفضل العباس في محيط السيدة زينب، أو القصير مستندين في ذلك إلى مبررات أخلاقية (موضوعية)؛ وهي الدفاع عن الأماكن المقدسة وحماية اللبنانيين، ثم رفع شعار مواجهة الخطر التكفيري، والانتشار في مختلف أجزاء سوريا، والدفع بأعداد من الحرس الثوري الإيراني، والاستعانة بمرتزقة شيعة من أفغانستان وباكستان واليمن؛ وكلما طال أمد الحرب زادت أعداد المتدخلين من الخارج، وتعاظمت الجرائم، وتكشفت الأسباب الحقيقة، وبالتالي تدني الروح القتالية مع تضاعف الخسائر البشرية؛ التي تزيد من احتمالات التمرد ورفض الحرب، وذلك في حين يُشكِّل كل هذا دافعًا إضافيًّا لمقاتلي المعارضة للتمسك بقضيتهم.
وبالعودة إلى الجانب المادي ودعم الحلفاء فإن بقاء نظام الأسد ليس من مصلحة تركيا أو السعودية وغيرها من الدول التي لن تتوانى هي الأخرى عن دعم المعارضة بشتى الطرق، كما أنها في وضع مادي يسمح لها بدعم القوى المؤيدة لها ربما أفضل من إيران. وميدانيًّا، أسفر التعاون بين هذه الأطراف عن تقدم قوى المعارضة؛ التي بدأت تتكتل من خلال تشكيلات جيش الفتح في العديد من المناطق، وهي تحقق إنجازات متواصلة، ولم تتأثر بالاتفاق النووي، وعلى العكس من ذلك فإن خطاب الأسد الأخير؛ الذي أقرَّ فيه بالتخلي عن بعض المناطق لعدم قدرته على استرجاعها، يرجِّح ضعف إمكانيات الحشد البشري، ليس لاعتبارات مادية؛ فقد كان بإمكانه على الأقل تأجيل تلك الرسائل السلبية المحبِطة، واستثمار نشوة الاتفاق النووي لرفع معنويات جنوده؛ لكن تسليم رأس النظام بالأمر الواقع، واعترافه بالعجز عن تحقيق انتصارات -كما كان يَعِدُ سابقًا- لا يعني حسم المعركة لصالح المعارضة بشكل نهائي، وفي الوقت نفسه يؤكد استحالة الأمر بالنسبة إلى إيران وحلفائها أيضًا، ولا مجال لتعزيز النفوذ تبعًا لذلك.
النفوذ الإيراني وخطوط التماس التركي-السعودي
أصرَّت القوى الغربية على أن الاتفاق انحصر فقط حول المسائل النووية؛ ولكن عمليًّا وبشكل غير مباشر يستحيل أن لا تكون له أبعاد تتعلق بالنفوذ الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط أو مناطق أخرى؛ تبعًا لمصالح كل دولة؛ فقد سبق أن اقترن التقدم في مسار المفاوضات مع مواقف إيجابية من الدور الإقليمي لإيران، ومن ذلك قبولها في مؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية الذي تزامن مع الاتفاق الأوَّلي، وتراجع واشنطن عن كل الخطوط الحمر التي رسمتها لإسقاط الأسد، ثم التنازل نهائيًّا عن ذلك، وجعله شريكًا في حل الأزمة، ولا يخرج عن هذا الإطار التحالف مع مختلف الميليشيات المؤيدة لإيران في العراق في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، على الرغم من إدراك واشنطن لطبيعة الأبعاد الطائفية في المسألة، والصمت عن سياسات الحوثيين في اليمن.
يتبين من هذا أن التوافق الإيراني-الأميركي في الشرق الأوسط موجود قبل الاتفاق النووي، على الرغم من كل الضجيج الإعلامي الذي يصدره الطرفان؛ الذي جاء تتويجًا لمسار بدأ على الأقل منذ الاحتلال الأميركي للعراق، هذه الساحة التي يمكن اعتبارها مرآة لطبيعة العلاقة والأدوار بين الطرفين؛ إذ لم تلتفت الولايات المتحدة الأميركية لسياسات إيران في الإقليم خلال العقود الماضية، أو بعد بداية الانتفاضات العربية كمحدد لمواقفها منها. وعلى الرغم من كونها شريكًا للنظام السوري، ومتورطة في كل الأعمال إلى جانبه؛ فإن ذلك لم يكن كافيًا لاتخاذ موقف سلبي منها، وظَلَّ التعويلُ عليها لحل المشكلة، والأمر نفسه في اليمن والعراق؛ حيث كانت القرارات تتم بعد مساومات بين واشنطن وطهران، تنتهي في الغالب لصالح إيران، دون أن تكون ضد الولايات المتحدة، وكل هذا لم يُثْنِ واشنطن عن عقد الاتفاق النووي؛ بل على العكس تُقَدِّم طهران خدمات -أو يُفترض ذلك- لواشنطن في سوريا والعراق؛ وذلك من خلال ادعاء محاربة تنظيم الدولة، والتعاون بين الطرفين في هذا المجال يجري على قدم وساق. وما لم تقدمه واشنطن لـ(حلفائها) خلال هذه المرحلة لا يمكن أن تقدم أحسن منه بعد الاتفاق، وجولات المسؤولين الأميركيين لطمأنة حلفائهم لا تعدوا أن تكون مجرد زيارات بروتوكولية؛ هذا فضلاً عن تراجع أهمية الشرق الأوسط نسبيًّا في سلم أولويات إدارة أوباما لصالح حوض الباسيفيك، وعدم استعداد الولايات المتحدة لاستثمار مقدرات مالية وعسكرية في منطقة تستعد بالفعل لتقليص وجودها العسكري في دولها(5).
يتضح من هذا تسليم أميركا بالدور الإيراني في الشرق الأوسط؛ لكن التأسيس عليه لإثبات التمدد الإيراني هو الآخر يغفل الدور التركي والسعودي في تحجيم هذا النفوذ؛ فبالعودة إلى الجغرافيا تكشف عن أن الدول الثلاث التي تنشط طهران فيها بقوة -والمقصود هنا: العراق واليمن وسوريا- تقع ضمن الدائرة الأولى لأمن المملكة العربية السعودية وتركيا؛ وهما دولتان إقليميتان لا يُستهان بقدراتهما، ولا بالمدى الذي يمكن أن تذهبا إليه لحفظ أمنيهما، خاصة اليمن بالنسبة إلى المملكة، وسوريا والعراق بالنسبة إلى تركيا؛ ولعل عاصفة الحزم أحد المؤشرات على ذلك؛ حيث اعتمدت الرياض على نفسها لحفظ أمنها وتحجيم الدور الإيراني في اليمن قبل الاتفاق النووي؛ لأن التطورات هناك أصبحت تلامس أمنها بشكل مباشر، وهو الواقع الذي لا يمكن أن تقبل به؛ لذلك جاء ردُّ فعلها قويًّا، واضطُرَّت القوى الدولية إلى التسليم به من خلال قرارات مجلس الأمن؛ وهذا ما أكد سعي دول الخليج العربية إلى البحث عن وسائل جديدة لمواجهة إيران مع بدء تشكُّل قناعة لديها بأنه ما عاد بالإمكان الاعتماد على الحليف الأميركي كالسابق، وسيدفعها ذلك إلى تعزيز خيار “الحرب بالوكالة”(6).
وما أقدمت عليه تركيا مؤخَّرًا في شمال سوريا لا يختلف كثيرًا؛ فقد جاء رد فعلها عقب الهجوم الإرهابي غير متوقع باستهدافها لتنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني، وما يُتداول حاليًّا من تقارير عن مفاوضات لاتفاق بين أنقرة وواشنطن يقضي بفتح قاعدة “إنجرليك” وباقي القواعد العسكرية الجوية التركية المهمَّة أمام سلاح الجو الأميركي وعدد من طائرات الدول المشاركة في التحالف ضد “تنظيم الدولة”، مقابل إنشاء منطقة عازلة تم الاصطلاح على تسميتها “منطقة خالية من تنظيم الدولة” محمية بحظر الطيران، وليس منطقة آمنة أو عازلة(7). يؤكد أن أنقرة هي الأخرى باتت تستشعر الخطر الذي يداهم أمنها القومي ما جعلها تحاكي الرياض لتحجيم المخاطر، ونظام الأسد أحدها، وما يستلزمه من تقويض للنفوذ الإيراني أيضًا.
وبغضِّ النظر عن ما تَوَصَّل/أو سيتوصَّل إليه الطرفان؛ فإن ما هو مؤكّد تمامًا أن الأتراك لن يتخلوا عن مقاربتهم بصورة كاملة، ولن يتورطوا في حربٍ بالوكالة ضد التنظيم، لمصلحة الأكراد أو خدمة لنظام الرئيس بشار الأسد(8)؛ لذا فإن دخول تركيا في مواجهة محدودة مع تنظيم الدولة سيكون في المحصلة الأخيرة لصالح قوى المعارضة؛ لأنها ما زالت تنظر إلى الأسد كمشكل أصلي فيما يجري، وإذا ما وسعت نطاق مواجهتها مع التنظيم فإن ذلك سيكون غطاء لدعم القوى الثورية؛ حيث بإمكانها على الأقل تخفيف جبهات القتال بين الثوار والتنظيم، وجعلهم يركزون جهودهم ضد الأسد.
وكل هذا ليس بمعزل عن الاتفاق النووي الإيراني؛ إذ يمكن رد التحرك التركي إلى محاولة أنقرة تحصين مكانتها في سوريا بعده، وخشيتها من إقدام طهران على دعم نظام الأسد بفاعلية أكثر في المستقبل القريب؛ مما يستوجب فرض واقع جديد في الشمال السوري؛ يبدأ بإضعاف تنظيم الدولة، وإنهاء سيطرته على المناطق المحاذية للحدود التركية، وفرض منطقة حظر جوي تكون قاعدة انطلاق لقوات المعارضة السورية “المعتدلة”؛ بغية توسيع نطاق سيطرتها على الشمال السوري(9). وهذا ما تؤكده تصريحات رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو؛ الذي أعلن أن العمليات العسكرية التركية ضد تنظيم الدولة ومتمردي حزب العمال الكردستاني يمكن أن تؤدي إلى “تغيير التوازن” في سوريا والعراق. وأن الضغوط التي تمارسها تركيا لفرض “منطقة حظر جوي” في شمال سوريا أُخذت في الاعتبار “إلى حدٍّ ما”، وحماية بعض العناصر (من المعارضة السورية المعتدلة)؛ الذين يتعاونون مع أنقرة على الأرض”(10).
كما أن من شأن التحرك التركي وانخراطه في التحالف الدولي ضد “تنظيم الدولة” حرمان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه العسكري) وحدات حماية الشعب (من الحصول على مكاسب سياسية من وراء تنسيقه مع قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة(11)؛ إن الهدف التركي من إقامة منطقة حظر للطيران فوق أجزاء من شمال سوريا، إضافة إلى إضعاف تنظيم الدولة، هو أن يمنع أيضًا حصول الوحدة الجغرافية بين المناطق الكردية في سوريا، واحتواء الطموحات الكردية حول إقامة نظام حكم ذاتي أو كيان كردي شبه مستقل(12).
فالملاحظ من سلوكيات الطرفين السعودي والتركي أنه لا مجال للتراجع بعد التهديدات المباشرة لأمنيهما القومي، وأن ما قامتا به كانت خطوات استباقية لمنع أية محاولة تقسيم؛ من هنا فإن النفوذ الإيراني بلغ مداه وهو يلامس الأمن القومي لهما بشكل مباشر، وأي خطوت أكبر لا شك أنها ستُقابل برد فعل أقوى، وكما تراجعت الولايات المتحدة الأميركية أمام عاصفة الحزم ضد الحوثيين؛ فإنها أيضًا لم تُبدِ اعتراضًا على استهداف تركيا لحزب العمال الكردستاني؛ على الرغم من العلاقة الاستراتيجية مع الأكراد؛ واعتبارهم الحليف الموثوق لديها.
النفوذ الإيراني: دول أم دويلات مفترضة؟
تباهى مسؤولون إيرانيون بسيطرتهم على أربع عواصم عربية، للتدليل على نفوذهم الكبير، وتحكمهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ فقد اعتمدت إيران على استراتيجية تعتمد الدفع بحلفائها للاندماج في العمل السياسي والسيطرة على صنع القرار فيها بالمزاوجة بين الوسائل السلمية والعنيفة، كما هي حال حزب الله في لبنان، وحاولت تكرار تجربته في اليمن بواسطة الحوثيين؛ وذلك في حين تبقى هي تقود من الخلف؛ وبذلك تحقق مصالحها؛ حيث تضمن توجيه مقدرات تلك الدول لخدمة أهدافها، والسيطرة عليها بطريقة غير مباشرة.
وعند الأخذ بعين الاعتبار أن حلفاء إيران في جُلِّ هذه الدول أقليات، أو على الأقل توجد هناك قوى سياسية أخرى وازنة لا يمكن استبعادها نهائيًّا؛ يصبح هذا الوضع أقصى مدى لحدود النفوذ الإيراني في المنطقة؛ وذلك مع استحالة إسقاط الأنظمة الخليجية، واستبدال حكومات موالية لها شبيهة بالحكومة العراقية بها، أو وصول تيارات إسلامية سُنِّية موالية لها في الدول العربية الأخرى؛ لذلك فإن استمرار إيران في سياساتها على هذه الشاكلة سيؤدي إلى انهيار الدول الحالية، وبروز دويلة علوية في سوريا، أو تقسيم اليمن والعراق، وهذا بكل تأكيد لا يخدم مصالحها؛ حتى إذا حقَّق لها بعضَها؛ فإنه لن يكون بالقدر الذي كانت عليه بسيطرتها على عواصم تلك الدول سابقًا؛ لأن حلفاءها سيدخلون في دوامة من العنف والصراع مع القوى المنافسة الأخرى؛ التي تملك أيضًا دعمًا إقليميًّا، فضلاً عن إزاحة كل أغطية الشعارات الشعبوية؛ التي تنهي رصيد طهران لدى الرأي العام العربي، ولا شك أن إيران تدرك هذه التبعات؛ لذلك تحاول الحفاظ على هذا الوضع من خلال الاعتماد على سياسة التوتير المضبوط في بعض الملفات والمناطق في الشرق الأوسط لاستخدام نتائجه كورقة يتم التفاوض عليها مع القوى الكبرى خاصة أميركا(13).
إن أي تجاوز لحدود التوتير المضبوط سيؤول حتمًا إلى التقسيم، وفي هذه الحالة لن تكون إيران بمنأى عن تبعاته، ولن تجد الدول الأخرى غضاضة في تحريك الأقليات الموجودة في إيران؛ لأنه لن يكون لديها ما تخسره، ولن يكون لإيران ما تساوم به للحفاظ على وحدتها، كما أن تلك الدويلات ستكون في وضع حرج جدًّا بين اعتراف منقوص؛ ولربما منعدم وصراعات دموية وجودية.
الخلاصة
خلصت الورقة إلى جملة النتائج التالية:
سيجعل الاتفاق إيران في أريحية تغذي شعورها بالتفوق، ويعزِّز ثقة صانع القرار الإيراني بنفسه؛ مما يدفعها إلى الاستمرار في سياساتها في الشرق الأوسط، ولا يمنع ذلك من قيامها بحملات دبلوماسية بهدف خفض حدة التوتر، ومواجهة أزمات المنطقة كما في السابق.
لا يمكن التعويل على تنامي دور التيار الإصلاحي ممثلاً في الرئيس روحاني بشكل خاص؛ نظرًا إلى محورية دور المرشد في صنع القرار، ولتأثير الحرس الثوري على ملفات الشرق الأوسط.
مع ملامسة الأزمات الأمن القومي للقوى الإقليمية وبشكل خاص السعودية وتركيا؛ فإن الدور الأميركي سيكون ثانويًّا في إدارتها، وعدم إدانة مواقف هذه الدول سيكون نوعًا من التعويض عن ما قدمته لإيران في الاتفاق النووي على حسابها.
يؤدي البُعد البشري في الصراع دورًا أكبر من البعد المادي؛ لذلك فإن العوائد المالية للاتفاق النووي لن تغير الشيء الكثير بالنسبة إلى واقع الصراع باستثناء إدامته لأطول مدة.
على الرغم من الخسائر الكبيرة للمعارضة في هذا الجانب؛ فإنها تنعكس إيجابيًّا على الروح القتالية لقواتها؛ وذلك على عكس حلفاء إيران؛ الذين يعانون من أزمة أخلاقية لصعوبة المواءمة بين الخطاب الموجَّه للبيئة الداخلية والبيئة الخارجية.
القوى الإقليمية المؤيدة للمعارضة تملك هي الأخرى موارد مالية تمكِّنها من دعمها، وليست في وضعية مادية صعبة؛ بل تدخلها أكثر سيكون تخفيفًا لبعض الأعباء على غرار مشكلة اللاجئين السوريين بالنسبة إلى تركيا في حالة عودتهم إلى سوريا؛ إذا ما استطاعت فرض منطقة آمنة على حدودها الشمالية.
هناك فرق بين إطالة أمد الصراعات وتحقيق نفوذ أكبر، وعوائد الاتفاق النووي لا تمنح إيران مكاسب إضافية أكثر مما هو عليه الوضع الآن.
انهيار أية دولة وتغير حدودها السياسية سيكون على حساب حلفاء إيران؛ الذين يسيطرون حاليًّا على دول بأكملها.
تقسيم أية دولة من الدول ستكون احتمالات انتقاله إلى إيران واردة؛ نظرًا إلى المشكلات الإثنية التي تعاني منها، وبشكل خاص الأحواز والأكراد في حالة قيام دولة كردية في العراق أو سوريا.
___________________________________________
بوزيدي يحيى: باحث جزائري متخصص في العلوم السياسية.
المصادر والهوامش
1- خامنئي: الاتفاق النووي لن يغير علاقة إيران مع الولايات المتحدة، وكالة رويترز للأنباء، 18 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 3 من أغسطس/آب 2015(:
http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKCN0PS05720150718
2- ناجي محمد عباس، كيف يؤثر الاتفاق النووي على الدور الإيراني في الإقليم؟ القاهرة: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، 16 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 24 من يوليو/تموز 2015(:
http://www.rcssmideast.org/Article/3655/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D9%88%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85#.VbSvj7U_5LM
3- نصر الله يقول: إن إيران لن توقف دعمها لحزب الله بعد الاتفاق النووي، رويترز، 25 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 24 من يوليو/تموز 2015(:
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN0PZ0LU20150725
4- ناجي، كيف يؤثر الاتفاق النووي على الدور الإيراني في الإقليم؟ مصدر سابق.
5- مركز الجزيرة للدراسات، النووي الإيراني: أرباح اتفاق جنيف وتكاليفه، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 28 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013، ص3، (تاريخ الدخول: 3 من أغسطس/آب 2015(: إضغط هنا.
6- الصمادي، فاطمة، ماذا بعد الاتفاق النووي الإيراني؟ الرابحون والخاسرون، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 25 من يونيو/حزيران 2015، ص7، (تاريخ الدخول: 3 من أغسطس/آب 2015(: إضغط هنا.
7- دباغ، باسم، تركيا تضرب الكردستاني وتسعى لمنطقة خالية من تنظيم الدولة، العربي الجديد، 25 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 28 من يوليو/تموز 2015(:
http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/7/24/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D8%AF-%D8%B6%D8%B1%D8%A8-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%88%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D9%89-%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85
8- أبو رمان، محمد، تركيا وتنظيم الدولة: من انقلب على الآخر؟ العربي الجديد، 27 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 28 من يوليو/تموز 2015(:
http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/7/26/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1
9- مفرح، مصطفى عماد، أبعاد الحملة التركية على الإرهاب وأسبابها، الجزيرة نت، 26 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 28 من يوليو/تموز 2015(:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/7/26/%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%87%D8%A7
10- أوغلو: وجود تركيا قادرة على استخدام القوة يمكن أن يؤدي إلى تغيير التوازن في سوريا والعراق، جريدة الشرق الأوسط، 27 من يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 28 من يوليو/تموز 2015(:
http://aawsat.com/home/article/416066/%D8%A3%D9%88%D8%BA%D9%84%D9%88-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A9-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D8%A4%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
11- مفرح، أبعاد الحملة التركية على الإرهاب وأسبابها.
12- مفرح، المصدر السابق.
13- باكير، علي حسين، “إيران والتنافس الشرق أوسطي: التقاء وتصادم المشاريع (تركيا وإسرائيل)”، في: فادي شامية (محرِّر)، المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية، مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية، (دار عمان للنشر والتوزيع، عمان، 2014)، ص108.