كما أن الحرية لا يمكن أن تأتي على دبابة، فإن الاستقرار والتنمية لا يمكن أن يُحملا داخل كيس من الأرز. وللمرة الألف: على الحالمين بالتغيير والانعتاق من الاستبداد والقمع ألا يبحثوا عن حلمهم داخل حقيبة دبلوماسية، بل هو هناك تحت أقدامهم، في تربة لا تمنح زرعها إلا لمن يوفيها حقها من الكفاح.
وما دون ذلك هو الطفولة السياسية لدى سلطة تتغذّى على حليب المانحين، ومعارضة تنتظر الحل من خارج الحدود، لا من تحت الجلود، وهذا كلام قلته سابقاً، مع تغيير القيادة في السعودية، وردود أفعال النظام والمعارضة، في مصر، إذ تبدّت ما وصفتها، في ذلك الوقت، بأنها “حالة “نكوص” أو طفولة سياسية مصرية، تتأسس على سيكولوجية البحث عن “الكبير”، أو “الراعي”، الذي يستجيب، جزئياً أو كلياً، لطموحات وأحلام وتطلعات هذا الطرف، أو ذاك، من معسكري السلطة والمعارضة.
أكرر أنه في اللحظة التي تفكر فيها الثورة بمنطق الانقلابيين، فإنها تتخلى عن كونها ثورة، وتتجرد من أهم مقوماتها وأسلحتها، كفعل شعبي ذاتي، يعتمد على نفسه، في المقام الأول، من دون أن يهمل المتغيّرات الإقليمية والأوضاع الدولية بطبيعة الأمر. لكن، من دون أن تترك نفسها مثل قصاصة ورق في مهب الريح السياسية، تحركها كيف تشاء وفي الاتجاه الذي تحدده.
الثورة في مصر، إن أرادت أن تنتزع حلمها من بين أنياب الانقلاب الوغد، عليها ألا تشغل نفسها كثيراً بمن جاء ومن ذهب، ومن عبس وتولّى، ومن ضحك حتى بانت سنّه، فالحاصل أن العلاقات الدبلوماسية، إقليمياً ودولياً، لا تقيم أود ثورة، إن حبست نفسها في منطقة رد الفعل، ولا تثبّت أقدام سلطة انقلابية، جاءت عبر ثورة مضادة، ما دامت الثورة مستمرة في نضالها ومقاومتها السلمية.
مؤسف للغاية أن يترك الثوار ما لاح في الأفق من مراجعات في مواقف قوى وحركات، مثل “الاشتراكيين الثوريين” و”6 أبريل”، بما يبشر باستعادة حالة اصطفاف ووحدة، ويغرقوا في تفاصيل وإشارات ولفتات وهمسات زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى القاهرة، واستثمار قائد الانقلاب لها، لكي يدلي بتصريحات بأن الدعم مستمر، ولا تغيير في المواقف.
أعلن الاشتراكيون الثوريون موقفاً شديد الوضوح، بخصوص إعادة ترميم البيت الثوري، في مواجهة عقيدة واضحة للنظام الحالي تتأسس على العداء الصريح لكل ما يتعلق بثورة يناير/ كانون الثاني 2011، ثم أعلنت حركة 6 أبريل موقفاً قريباً، يضبط المصطلحات ويحرر المفاهيم ممّا علق بها من تلوّث وتشوّه، بحيث تعود المعادلة إلى وضعها الصحيح: ثورة (متنوعة الطيف ومتباينة الطرح ومتعددة المنبت) في مواجهة ثورة مضادة، تمارس بشراسة عمليات المحو والإبادة، حتى أنها حشدت كل قواها لإعدام كتاب أصدرته وزارة الثقافة، لأن في مقدمته سطراً كتبه علاء الأسواني، المتهم بأنه من “عملاء يناير”، على الرغم من كل ما قدمه من خدمات إلى “يونيو المضادة”، يتحدث هذا السطر عن قتل المجلس العسكري للمتظاهرين.
إن الاتفاق على ضرورة مواجهة كوارث الانقلاب العسكري، بحد ذاته، مكسب، ومطلب ثوري، مع احترام حق كل فصيل في اختيار المدخل الذي يناسبه، ويتّسق مع أفكاره وقناعاته، للوصول إلى النتيجة التي تجمع كل الأطراف الشريكة في الثورة، على أنها الهدف الأسمى والأهم. وأظن أن العودة مجدداً إلى النبش في أخطاء هذا، وخطايا ذاك، والاستمرار على تلك الوضعية البيزنطية من الجدل العميق، والاشتباك الضروس حول من فعل ماذا، ذلك كله لا يعني إلا أن الجميع مستسلمون لحالة اللغو والسفسطة، هرباً وتفلّتاً من فعل واجب، بات تأجيله أو ترحيله، نوعاً من الانتحار.
ولا يقل عن ذلك كارثية أن يبقى بعضهم متمسكاً بترويج مسكّنات ومهدّئات، أقرب إلى المخدرات، عن التدخل الإقليمي في الموضوع المصري، لفرض بديل، عسكري أو غير عسكري. فليصمت مُلّاك “جمعية منتظري البديل المصنوع خارجياً” قليلاً، وليتركوا الداخل يعمل ويبدع، ويقاوم حالة التثاؤب الثوري، المفروضة عليه فرضاً، والتي بدا للحظات أن ثمة استسلاماً لها.
البديل يُصنٓع في الداخل، ولا يُستورٓد من الخارج.