مر الحديث عن منظومات الاستبداد: السياسي منها والاقتصادي والديني، وما يلحق بهن من مؤسسات تحتكر القرار السياسي والثروة الاقتصادية والرأي الديني، وما يعيب ذلك الاحتكار من فساد سياسي يحافظ على السلطة أكثر من المحافظة على مصالح الناس، وفساد اقتصادي يوظف مرافق الدولة والخدمات العامة لصالح القلة المحتكرة المتحالفة مع الاستبداد السياسي، وفساد ديني ينحرف فيه قلة من أدعياء العلم بالدين ليشرعنوا ويفتوا للفساد السياسي والاقتصادي ويخضعوا الناس لهما.
ولكن الإشكالية الكبرى في الاستبداد ليست فقط في المؤسسات الحكومية والحكام المستبدين، وإنما الإشكالية هي أن الاستبداد متوغل في عمق ثقافة المسلمين والعرب أنفسهم على كل المستويات، أي ثقافتهم السياسية والاقتصادية والدينية، وكما تكونون يولى عليكم. بل إن الاستبداد في ثقافات العرب والمسلمين هو الأساس الحقيقي الذي يستند إليه الاستبداد في صورته المؤسسية الحكومية.
أما الاستبداد السياسي بالسلطة والتعسف والظلم في استخدامها، فقد أخذ في أيامنا شكلاً جديداً في ثقافة العرب والمسلمين بشكل عام، فنرى عياناً بياناً اضطهاداً وعنفاً وظلماً من عموم الناس لآخرين مثلهم من عموم الناس لمجرد المخالفة في الرأي والتوجه واللون السياسي، ودون جريمة ولا ذنب إلا هذه المخالفة، ولا يسود الحوار السياسي العام إلا منطق التخوين والتفسيق وتبادل التهامات، ولم يعد المناخ السياسي العام يحتمل التنوع ولا المخالفة في أدق التفاصيل، بل تتجه البلاد العربية والإسلامية بسرعة نحو الحروب الأهلية بين كل المجموعات والألوان السياسية.
والأدهى من ذلك أن الاستبداد أصبح سمة عامة لكل ذي سلطان على عباد الله ولو لم يكن في مجال السياسة بالمعنى التقليدي لها، من الرجل مع أسرته، والمرأة مع أولادها، والمدير في العمل، وصانع السياسات واللوائح في المؤسسات المدنية، ورؤساء وعمداء المؤسسات الأكاديمية والعلمية، ورموز المؤسسات الفنية، ومديري المستشفيات الطبية، وهلم جراً.
ويتجلى الاستبداد السياسي في احتكار القرار العام، والولع بالتحكم في مصائر الناس، وغياب الشفافية والشورى، وتحويل المؤسسة العامة بما فيها ومن فيها إلى ملك خاص يخدم المصلحة الخاصة لصاحب القرار العام، ثم أخيراً “توريث” المدير المؤسسة العامة لأبنائه من بعده وهم ليسوا مؤهلين للقيادة. وتوغلت هذه الممارسات في أوصال الثقافة الإدارية في العالم العربي والإسلامي على كل المستويات المجتمعية والمؤسسية.
فالرجل مع أهل بيته صار يحتكر قرار الأسرة العام احتكاراً في كثير من العوائل، رغم أن الزوجة تشارك وتعطي أكثر منه في غالب تلك الأحوال وقد تكون أفهم وأوعى، والأولاد قد يكونون على درجة جيدة من الوعي والعلم على الأقل بمصلحتهم، ولكن نجد الأب المستبد يزوج البنات وأحياناً البنين حسب مصالحه الخاصة، ويرفض من يتقدم لزواج بناته حسب أهوائه الخاصة لا حسب الدين والأمانة، والأب يملي على الزوجة والأولاد دون وجه حق ما يدرسون وفي أي مجال يعملون ومع من يتكلمون وكيف يأكلون ويشربون، ثم نجد افتقاد الشفافية والوضوح في تعاملات رب الأسرة مع أسرته أيضاً كسمة مجتمعية عامة، فليس هناك مصداقية في الوعود ولا مبررات واضحة للقرارات الأسرية الكبيرة التي يحتكرها الأب دون وجه حق. وبالتالي فينشأ الجيل الجديد لا يعرف إلا الاستبداد طريقاً والعنف منهجاً، وليس عندهم القدرة على فهم أو التعايش مع نظم أخرى غير استبدادية.
وأما مديرو المؤسسات المدنية وعمداء المعاهد الأكاديمية ومسؤولو المرافق العامة فالاستبداد هو السمة العامة في الإدارة إلا نادراً، سواء من الرجال أو من النساء على كل المستويات. القرار العام لا يؤخذ من أجل الصالح العام ولا في سبيل أهداف المؤسسة المجتمعية أو أهداف الجامعة العلمية مثلاً، وإنما القرار الإداري العام هو لصالح المدير أو الرئيس أو العميد أو المسؤول شخصياً قبل وبعد أي اعتبار آخر، في صورة مال يدخل جيبه أو نفع يعود على أولاده أو دوائر قراباته، أو على أحسن تقدير يتخذ القرار العام لخدمة تحيزات المدير الجغرافية والقومية والمذهبية المختلفة. والشورى الإدارية هي ممارسات شكلية في غالب المؤسسات والشركات والجامعات والمعاهد والمرافق العامة، تماماً كما هي في الدولة نفسها. وبالتالي فعملية الشورى لا علاقة لها بمفهوم الشورى الحقيقي، بل هي بالأساس لتصنيف أصحاب الولاء للمدير ممن لديهم استعداد لدفع الثمن من قيمهم الأخلاقية وتاريخهم المهني من أجل إعطاء شرعية شكلية للقرار العام، والمقابل هو مصالح شخصية ضيقة على مستويات أهل الشورى المختلفة، كل حسب تحيزاته ومصالحه الضيقة كذلك. وبالتالي فتقييم العاملين والموظفين والمدرسين والأساتذة ومعايير الثواب والعقاب هي هي كما في الدولة والحكومة، لا تتعلق بجودة الأداء ولا إتقان العمل وإنما تتعلق بمستوى المسايرة للسيد المدير وإرضاء رغباته والولاء له.
ثم يريد كل مدير في عالمنا أياً كان وفي كل مجال أن “يورث” أبنائه الإدارة من بعده، فيصبح ابن مدير المستشفى مديراً لها بعد أبيه ولو كان غير مؤهل لذلك، وأستاذ الجامعة أستاذاً بعد أبيه ولو كان غير مؤهل لذلك، والفنان فنان بعد أبيه ولو كان غير مؤهل لذلك، بل وقاضي المحكمة، ووكيل النيابة، وعميد الشرطة، ولواء الجيش، ورجل الإعلام، وهلم جراً. التوريث الاستبدادي انتقل من الملكيات إلى الجمهوريات، ثم إلى كل مستويات الإدارة في عالمنا العربي والإسلامي! حين دعا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ترث ذريته الإمامة قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين).
والاستبداد الإداري هو هو الاستبداد السياسي الفرعوني ولكن في صورة مصغرة، وهو بالتحديد سر وجود مؤسساتنا العلمية والتعليمية والحقوقية والبيئية والفنية والطبية والإعلامية وغيرها في ذيل الأمم وفي قاع الترتيب في عموم المعايير العالمية.
وأما الاستبداد الديني فهو كذلك لا يقتصر على رؤساء المؤسسات الدينية الذين يعينهم الحاكم كامتداد له ولخدمة نظامه وتثبيت أركانه، بل الاستبداد الديني هو ثقافة عامة عند عموم الناس على اختلاف أدوارهم الدينية ونفوذهم الديني. إمام المسجد الذي يعلم المصلين الدين ويفتيهم في الأمور اليومية مستبد صغير إلا من رحم الله، لا يقبل أن يصححه أو يقومه أحد، ولا يريد أن يسمع أو يتعلم، ولا يرحب بالمرأة ولا الطفل في المسجد، ولا يقبل الخلاف المذهبي والتنوع الفقهي، ولا يسمح للمخالفين لطريقته بدخول المسجد فضلاً عن التصدي لتعليم الناس، ولا يقبل من أصحاب الرأي أو الفكر رأياً في مسألة أو دعاء على ظالم أو توجيهاً في سبيل الله والمستضعفين.
وأما الاستبداد الاجتماعي باسم الدين فحدث ولا حرج، فباسم الدين تنتهك حقوق المرأة فلا تتبوأ منصباً ولا تدخل مسجداً ولا تدلي بشهادة ولا ترث نصيباً مفروضاً ولا تستلم نفقة مشروعة ولا تختار زوجاً ولا تطلقه ولا حتى تسوق سيارة في بعض المجتمعات. ولن يبدأ التخلص من الاستبداد الديني المعاصر قبل أن نواجه قضية المرأة وتهميشها وهضم حقوقها الشرعية باسم الدين والدين من ذلك براء.
ضربنا هنا أمثلة حسب ما اتسع المقام للاستبداد كثقافة سادت عالمنا العربي والإسلامي على كل مستويات القرار العام. ولن نستطيع أن ننهض على أي مستوى حتى تتغير الثقافة الدينية العامة من أبسط صور الممارسة الدينية إلى أعلى درجات الفتوى، فتقبل التنوع والاختلاف في حدود ثوابت الشرع وقابليته لتعدد الأفهام والآراء، وحتى تتغير الثقافة الإدارية من أسفل درجات الهرم الإداري إلى أعلاه، حتى تكون العبرة بالمصلحة العامة لا المصلحة الخاصة خارج الحقوق والتشريعات، والنفع العام لا النفع الخاص، وأهل الكفاءة لا أهل الولاء. ولن نستطيع أن نتخلص من الاستبداد في صورته السياسية حتى نتخلص من الاستبداد في صورته الدينية والمجتمعية. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). صدق الله العظيم.
……………
د. جاسر عودة
أستاذ مقاصد الشريعة وعضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين