وجه منصف المرزوقي، الرئيس التونسي السابق، سبعة أسئلة -عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”- إلى الذين يكتبون بالعامية، بل بالأحرف اللاتينية، لتغيير مواضيع الخصام والتجديد فيها، متمنيًا أن يتقبلوها بشكل رحب.
وتساءل المرزوقي: “أولًا: متى كانت الكتابة بالعربية أو الحديث بها علامة للنخبوية؟ ألم يكن إقحام الفرنسية أو الإنجليزية في الكلام أحد أهمّ مظاهر “التحضّر” والانتماء إلى الطبقات العليا”.
وأضاف “ثانيًا: لو افترضنا أن العامية لغة الشعب الذي قهرته فصحى النخب، فأي عامية سنعتمد لـ”تحررنا اللغوي”؟ لماذا نعتمد عامية الفرانكوآراب التي تتكلمها النخب المزعومة، وليس عامية نساء أريافنا وهي تكاد تكون عربية فصحى؟”.
وتابع “المرزوقي” منشوره قائلا: “ثالثًا: إذا قرّ القرار على أن نجعل من العامية لغتنا الوطنية، فكيف سنكتب كلمة “أنا”؟ هل سنكتبها “نا” على طريقة أهل قفصة، أم إننا ننقشها “ناي” على طريقة أهل قرمبالية؟ ولِم لا تُكتب “آني” كما ينطقها أهل الساحل؟ أو “أني” كما ينطقها أهل الجنوب؟”.
وتابع الرئيس التونسي السابق قائلًا: “رابعًا: هل يعلم كتّاب العامية والناطقون بها اليوم بكل أريحية في الإذاعات والتلفزيونات، أن الفرنسية والإنجليزية والألمانية المستعملة في تلفزيونات وإذاعات تلك البلدان، لا علاقة لها بالعاميات العديدة واللهجات المحلية، وأنه لا يخطر على بال إنجليزي وهو على أمواج الأثير أن يتكلم بلغة الحانات والأزقة والقرى والمدن المختلفة، فما بالك بالخلط بين لغة شكسبير ولغة أخرى مثل العربية. لماذا تحترم كل هذه الشعوب لغة وسطية، لغة واسطة تلمّ الشمل، ونرمي بها نحن في المزابل؟”.
ووجه المرزوقي حديثه إلى الذين يكتبون عاميتهم بالأحرف اللاتينية، قائلًا: “آسف، أنا لا أقرأ أبدًا أي تعليق لسبب بسيط؛ هو أنني أحتاج لوقت طويل حتى أستطيع فهم المقصود، ولا وقت لديّ أضيعه”، متابعًا: “ليسمحوا لي بقصة. عندما سجلني والدي في المعهد الثانوي الفرنسي بطنجة في بداية الستينات، طلبت مني الادارة أن أختار واحدة من ثلاث لغات “أجنبية”: الإنجليزية والعربية ” الكلاسيكية ” والعربية التي كانوا يسمونها L’Arabe dialectal وهي العامية المغربية مكتوبة بالأحرف اللاتينية”، مشيرًا إلى أن اللغة الأخيرة هي التي كانت اللغة التي حاول الاستعمار الفرنسي تسويقها للقضاء على اللغة العربية.
وتساءل منصف المرزوقي في نهاية تلك الفقرة قائلًا: “لا أدري هل ما زالت تدرّس ومَن المساكين الذين يدرسونها ويتعلمونها. هل هذا ما تريدون؟ أن تُثَبّتوا ما لم ينجح الاستعمار في تثبيته خلال أعتى صولاته؟”.
واستنكر -في منشوره- ما كتبه أحد الكتاب التونسيين والذي كتب “نورمالمون”؛ حيث قال الرئيس التونسي السابق: وكأن الدارجة لا تملك مصطلحًا يفي بالغرض فما بالك بالفصحى”، مضيفًا “أقول له “نورمالمون” من الأحسن لمسلسل تونسي أن يكتب بلغة يفهمها المصري والسوري والمغربي -وهو ما يعطي لإنتاجنا الثقافي سوقًا واسعة- بدل أن تحشر فيه المصطلحات الفرنسية والتعبيرات المغالية في المحلية، التي تجعله محصورا في أضيق سوق. أليس من مصلحة كل كاتب تونسي أن يكون جمهوره بعشرات الملايين، لا ببضعة آلاف؟”.
وتساءل في سؤاله الأخير في هذا المنشور قائلًا: “ألا يعلم أصحاب هذه “المدرسة” أن الفصحى هي العمود الفقري لأمتنا العربية، وأنه لولاها لما أمكن الحديث عن أمة عربية؟ فهل هم مصممون على تمزيق أوصال هذه الأمة التي لم يبق لها إلا لغتها الموحدة، وفي هذه الحالة ما الذي سيجنونه من العملية؟”.
وأضاف “يخطئ من يتصوّر أنني شوفيني لغوي، فعشقي للعربية الفصحى لم يمنعني أبدا من محبة اللغة الفرنسية وإعجاب كبير باللغة الإنجليزية، بل أحمد الله دومًا أنني لم “أسجن” داخل لغتي الأم”، مشيرًا إلى أن اللغة أكثر من أداة تَخاطب، إنها سجن لأنها تمنع من فهم ثراء الثقافة البشرية وكل لغة نمتلكها نافذة مفتوحة على رؤيا أخرى للعالم تعلمنا النسبية والتسامح والولوج إلى تجربة بشرية غير تجربتنا فلا تزيدنا هذه التجربة إلا ثراءً وعمقًا.
وتابع: “سأرحل عن هذا العالم بنفسية من دُعي لأفخم وليمة فقام عنها شاكرا حامدا لكل ما جرب وسمع وقرأ، لكنني سأرحل عنها بنفسية من ترك الوليمة وهو على أشدّ الجوع والظمأ”.
وأعرب “المرزوقي” عن أسفه لأنه لم يحقق حلمه بالتمكن من الفارسية ليقرأ نصوص عمر الخيام وحافظ وسعدي، وأنه لم يسعفه الوقت لتعلم الإسبانية ليقرأ في نصوص سرفانتس ولوركا ونيرودا، كما أعرب عن أسفه لعدم تمكنه من اليابانية ليغوص في أعماق شعراء الهايكو مثل باشو وشيكي والعظيم إيسا، وكذلك لم يحقق حلمه بترجمة كتاب “طاو تي كنج” من الصينية للعربية، وهو طود فكري شامخ لأحد أكبر شعراء وفلاسفة الإنسانية: لاو تسو.
وأعرب عن رجائه للعرب بأن يحافظوا على لغة القرآن، واصفًا إياها بأنها “لغة شرّفَتنا ولم نشرّفها”، مضيفًا “ثم لينطلِقوا منها لاستكشاف كبريات لغات البشرية، سيجدون فيها كنوزًا يا لها من كنوز”، مشيرًا في حديثه للعرب إلى “إما أن تسجنوا أنفسكم في لغة، بل في لهجة، فإنه والله العجب العجاب، الأمر بالنسبة لي كمن يرضى أن يسكن قفصًا والبراري الخضراء تدعوه للحرية”.
واختتم منشوره قائلًا: “اكتبوا وتكلموا كما تشاءون فأنا أحترم التعددية والحرية في كل مجال ، لكن لا تعتبوا عليّ.. قولوا عني ما تشاؤون: نخبوي، متخلف، لكنني لن أكتب إلا بالفصحى ولن أتكلّم إلا اللغة الأم، لغة أمي وهي مجرّد فرع من الجذع المهيب”.