مجددًا، يتفوق واحد من “أساتذة العلوم السيسية” على نفسه، ويثرثر بكلام مضحك عن أن الفعاليات المناهضة لحكم العسكر في مصر، ليست إلا مطلبًا فئويًا يخص جماعة الإخوان المسلمين.
مرة أخرى، تقدم نخبة الانقلاب، المخطوفة ذهنيًا، فاصلاً من الأكروبات المثيرة للشفقة، لتذكّرنا بفقراتها الطريفة، في أثناء اعتصام رابعة العدوية، رفضاً لانقلاب عبدالفتاح السيسي، إذ كانوا يتندرون على المعتصمين في ذلك بالقول إنهم مجموعة ضئيلة، تقف في إشارة مرور، لا تمثل شيئاً، في بحر البشر بمصر.
ثم فجأة تحولت النخب المعطوبة نفسها، من التندر والتهوين، إلى التوحش والتهويل، لتسكب عوادم أفكارها وتقولاتها، عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، محرضة على استخدام القوة المفرطة مع الاعتصام، تحت وابل من الأكاذيب من نوعية “المعتصمون مسلحون” و”جاري تخصيب اليورانيوم” و”مقابر جماعية تحت منصة الاعتصام”.
هذا الوابل من الأكاذيب المصنوعة استخدمته سلطة الانقلاب غطاءً لتنفيذ جريمتها بإبادة المعتصمين، وعلى ذلك كل من ادعى وكذب وحرض هو شريك لهذه السلطة في القتل والحرق.
الدم على الأيدي التي امتدت لتكتب بلاغات تحريض، وعلى الألسن التي امتشقت الفضائيات، وغرست أسنانها في أجساد المسالمين في العيد. كنت أتصور أن هؤلاء سيشعرون بالوخز هذا العيد، بعد أن كانوا جزءاً من آلة القتل في عيد 2013، غير أنهم باقون على العهد مع السلطة، ولم يمتلكوا الشجاعة بعد، لإخراج إنسانيتهم من الثلاجات، فلم يجدوا ما يعلقون به على مجزرة العيد ضد متظاهري منطقة ناهيا، أول من أمس، سوى القول إن”التظاهر يوم العيد للمطالبة بعودة مرسي إلى الحكم يعكس مطلباً فئوياً يخص جماعة الإخوان المسلمين، دون سواهم، وهذا هو العبث السياسي الذي لا طائل له”.
هذا ما قاله أحدهم في مداخلة هاتفية مع “الجزيرة”، في استمرار لذلك الجهد البائس الذي يحاول أن يصور ما يجري في مصر، باعتباره صراعاً بين “الإخوان” و”النظام”، من أجل إعادة الرئيس مرسي إلى الحكم، وتلك هي الوصفة المعتمدة من سلطات الانقلاب، لمزاولة الدجل والنصب والاحتيال على من يسأل عن حقيقة ما يدور في البلاد، بعد أكثر من عامين على جريمة الانقلاب على الحكم المنتخب، والاعتداء على ثورة يناير/ كانون ثاني.
هذه الوصفة، وإن كانت تصلح نسبياً للاستعمال مع السفراء والدبلوماسيين الأجانب، فإنها لا تجدي في الداخل، ولا مع من يتابع الأمر بتجرد وضمير، على الصعيد العربي، فالحاصل أن المصريين يتظاهرون لاسترداد ثورتهم من خاطفيها ومؤجريها من “نخبة السمسرة”، ولتحرير أكثر من خمسين ألف معتقل ظلماً وعدواناً، وللقصاص العادل لآلاف الشهداء، أزهقت أرواحهم ثمناً لوصول جنرال مهووس بأحلام الزعامة إلى الحكم.
يتظاهر المصريون طلباً للكرامة، على المستوى الشخصي، وعلى المستويين، القومي والعالمي، إذ إنهم ضجوا بكل هذا القتل وكل هذا القبح وكل هذا الظلم، كما ضجوا، حد الشعور بالعار، وهم يرون دولتهم الكبيرة محكومة بسلطةٍ تمد يدها وتصعر خدها، وتنحني في مذلة، تسولاً لحفنة من الأرز، أو طمعاً في صورة تذكارية مع رؤساء العالم، والأسوأ أنها تحيا وتمارس التسلط والتجبر، تحت كفالة دولة الاحتلال الصهيوني، وفي رعايتها الكاملة.
يتظاهر المصريون، لأنهم يرون مظاهر الانحدار والتقزم، على كل المستويات، ويدرك أصحاب الوعي والضمير منهم أن استمرار هذا النظام بات وبالاً، ليس على مصر وحدها، وإنما على مجمل الوضع العربي، ولك أن تتخيل أنه، في اللحظة التي يشتعل فيها العالم جدلاً ونقاشاً بشأن الاتفاق بين طهران ومجموعة “خمسة زائد واحد”، تجد الإدارة المصرية مشغولة بكيف تنتقم من الذين يدعون على الظالمين وسافكي الدماء، وكيف تنكل بمعارضيها، وكيف تبتز العالم لحضور حفل تدشين أحدث أوهامها، تحت إشراف شركات دعاية صهيونية.
يتظاهر المصريون، لأنهم يريدون مصر دولة، وليست محطة تحصيل رسوم، وفرض إتاوات، وتلقي عمولات ومنح، في خضوع وانكسار.
إذا كنت تعتبر كل ذلك مطلبًا فئويًا، فما أروعهم من متظاهرين، وما أرقى هذه الفئة الناجية من البلادة والجهل.