لا شك أننا تجاوزنا منذ زمن محاولات إثبات أن البطة بطة؛ وأننا استغرقنا وقتا ليس بالقليل في تتبع معالم ومظاهر هذا الانقلاب العسكري الدموي وسماته التي تشكل نموذجه وطبعته المصرية بعد ثورة عظيمة كثورة يناير، ومراقبة مجالات انتشار سرطانه وخطوط إمداده وتدعيمه في الخارج والداخل.
واستخلصنا من المتابعة كل التناقضات والهزليات والشنائع التي تدور اليوم حول مفهوم “المذبحة” وبحار الدم التي لا سواحل لها. ولقد كان خطاب قائد الانقلاب والخراب وحاشيته الإعلامية والمعممة والمستثقفة معبرا جدا عن هذه الحالة المزرية.
ومن ضمن هذه المذابح العجيبة والمدمرة للدولة والوطن والمواطن والمواطنة، ما يجري من اغتصاب في الطريق العام للسلطة القضائية وكل ما يمت لها بصلة. لقد حاولت الأنظمة الاستبدادية والعسكرية دوما ذبح القضاء وتطويعه تحت أقدامها، لكنها كانت دوما ما تجد مقاومة كبيرة أو محدودة، وكانت تجد أحراما من أفراد أو مجموعات اعتزوا بنزاهتهم أو امتنعوا بصلابتهم من أن ينقادوا وراء إغراء أو يخضعوا أمام إرهاب. لكن في حالتنا الأسوأ لا تكاد تسمع حسا أو ترى أثرا داخل مرفق العدالة يعارض هذه الاستباحة، خاصة بعد مذبحة قضاة العزة والاستقلال الأخيرة، بل الأدهى والأمر أن المذبحة اليوم تتم بيد ممثلي المؤسسة أنفسهم وبكل أريحية وتوافق.. إنها المذبحة الذاتية للقضاء.
لقد تكررت مذابح القضاء المصري من قبل العسكر والمستبدين بالقوة الغاشمة، وكانت مذبحة 1969 مكشوفة بفضل صف كبير من القضاة الشرفاء وقفوا في وجه عبد الناصر وطغمته حتى انكشف البلاء، لكن ما طرأ على القضاء منذ السبعينيات واستعمال ذهب المعز لا سيفه هو ما جعل تيار الاستقلال والإصلاح القضائي محاصرا من بعد بفعل المنظومة القضائية نفسها، وما أحداث 2005 و2006 ومت بعدها منا ببعيد. ولعل في شهادات الناطقين بعد الثورة ما يكفي.
اغتصاب الغراب للوطن في الطريق العام وعلى الشاشات لا يتجلى مثلما ظهر في وقفته أمام من يسمون “قضاة” في تشييع النائب العام المستشار هشام بركات؛ إثر اغتياله الغامض حتى الآن! كيف وقف غراب الخراب وكيف وقف أمامه قضاة الانقلاب؟ كيف تكلم وكيف تكلموا؟ وماذا قال وماذا فعل؟ وماذا هم يفعلون اليوم؟
لقد وقف قضاة الانقلاب أمام المنقلب منكسي الرءوس، حانين صدورهم، وقفة التلميذ أو الصبي البليد أمام معلمه الغاضب عليه، في حالة تدعو للإشفاق وهو يشخط فيهم ويزعق وينعق: (إحنا سبنا الأمر عندكم للعدالة، بقالنا سنتين سيبينه عندكوا، والناس كلها وأنا منهم بنطالب بتنفيذ القانون وهنفذ القانون..)، (يجب على المحاكم استخدام القوانين الناجزة)، (إحنا بنتكلم بقالنا سنتين، المحاكم بالطريقة دي في الظروف دي مش هتنفع، ولا القوانين دي في الظروف دي هتنفع، القانون اللي موجود ممكن للناس العادية، أما دول مش هينفع معاهم إلا القانون الناجز)، (.. عاوزكوا تتكاتفوا مع مصر والمصريين، أنا مش هعزيكوا دلوقتي، إلا لما تكونوا خلصتوا كل الإجراءات اللازمة، وبعدين هعزيكوا.. ).
يقول لهم بصريح العبارة إن القضاء ينظر فى كافة القضايا الخاصة بإرهابه المصطنع والمصنَّع والمفتعل لمدة عامين ولم يتم تنفيذ أي أحكام حتى الآن، وخاصة أحكام “الإعدام”، وبالأخص تجاه مع (هؤلاء الإرهابيين الذين يأمرون بقتلنا من داخل محبسهم).. مكررا أنه سيتم تنفيذ أحكام الإعدام والمؤبد التي سيصدرونها.
إذًا هلموا إلى الإعدام.. أنتم تقولون: حكمنا بالإعدام شنقا، وأنا عندي الحبل والجلاد. هذه هي القصة أو التمثيلية؛ أنتم تقولون ما أمليه أنا عليكم، وأنا أعمل ما أريد وكأني أنفذ أحكامكم أنتم. وهذا السيناريو معلن، حتى لا يقول أحد إنها مؤامرة ولا غيرها، حاشا لله، فالكلام صريح مريح على أعين العالمين.
ما هذا يا أهل القانون، وأهل القضاء، وأهل العقل؟ هذا ما قاله الانقلابي المتسلط لمن يتدثرون بزي القضاء، وهم لا ينطقون، ولا يجرؤ أحد منهم أن يقول له: لا دخل لك بسلطتنا المستقلة، والتي يفترض أنها مستقلة عنك أنت بالأخص؛ كراكب على ظهر السلطة التنفيذية.. لم يجرؤ أحد على أن يقول له: لست من يترك لنا الفرصة ولا من يعطيها، وأن ما يحكمنا هو قواعد العدالة وسيرها وضمائرنا (وآه من ضمائرنا هذه)، ولست من تمهلنا أو تأمرنا بالإنجاز، ولا يليق بك ولا بنا أن تحدثنا عن إعدامات أو مؤبدات (على الأقل أمام الناس كدة عيني عينك.. يقول الناس إيه علينا: عساكر عندك؟ طراطير؟ خدامين بناخد الأحكام بناء على أوامر سعادتك؟؟).
وبالطبع شرع الترزية في تفصيل قوانين الحاكم بأمر نفسه، وتغيير قواعد العدالة التي عرفتها البشرية منذ وجدت على الأرض، وتغيير القانون الطبيعي السائد في كل مكان، لا مجرد قوانين استثنائية تقدر بالضرورة، بل تغيير في أصول الترافع والتقاضي ودرجاته والتعامل مع الأدلة والشهادات..
الانقلاب لا يريد فقط إعدام الأسرى والمخطوفين عنده، الذين اختارهم الناس ممثلين لهم في لحظة الحرية والنزاهة الفريدة، ولا يريد فقط غطاء شفافا ممزقا من قانون مهلهل مفصل على مقاسه، ولا أن يحقق مخططه بصوت منصة قضاء تم القضاء عليها من زمن، إنما يريد هدم هذه المؤسسة من قواعدها، وإفقادها أية بقية من مصداقية أو ثقة فيها من قبل الشعب.. وهي المؤسسة الأخيرة في جدران بيت الوطن.. فإذا وصلت هذه المنظومة إلى هذا الدرك الأسفل، فقل على مصر السلام، ولا تسأل عن دولة ولا شعب ولا مستقبل، إلا أن تنجح الثورة ويتحقق التطهير الشامل..
القضاء والجيش يراد لهما مزيد من التورط والخوض في دماء المصريين، حتى لا يكون للمصرين نهضة ولا مستقبل إلا بمواجهة مغتصبي هاتين المؤسستين. إننا نسير من قتل الى قتل ومن فشل وتقصير فى إقرار موجبات الأمن الى إعدامات ممن يستحقه لمن لا يستحقه، نفوس تزهق وحرمات تهدر ودماء يراق وإعدامات بالجملة والهوى ،وهاهو الغراب ينعق مطالبا بمزيد من الدماء وإراقتها والإعدامات وتنفيذها، مغطيا فشله وبطشه، قانون يتلهى به وقضاء إستباح النفوس ومنقلب لا يرعوى يطالبهم بالإنجاز مستعجلا نصب المشانق وإقامة ولائم الإعدام ،إنه لا يشبع من الدماء؟!
غراب الخراب لا يدع لهذه البلاد أملا في التوقف عن الانحدار والانهيار، ومن يطربون لنعيقه واغتصابه الفاضح للوطن سيكونون أكبر الخاسرين.. وفي التاريخ خبرة وعبرة، وفي مصارع الطاغين تبصرة وذكرى..
أنقذوا مصر.. أنقذوا مصر.. أنقذوا مصر.