بدأ رئيس الوزراء التركي الحالي، أحمد داود أوغلو، الإثنين، الجولة الأولى من مشاورات الحكومة التركية؛ بعد أن كلفه الرئيس أردوغان قبل أيام بتشكيلها، بحيث سيزور رؤساء الأحزاب الثلاثة الأخرى الممثلة في البرلمان زيارات أشبه بالبروتوكولية، ليعرض عليهم رؤية حزبه للحكومة الائتلافية ويسمع ما لديهم.
بعد ذلك، سيبدأ الحزب مشاروات ثنائية، من خلال لجنتين شكلهما مؤخرًا، واحدة للتفاوض مع الشعب الجمهوري برئاسة وزير العمل والضمان الاجتماعي فاروق تشيليك، والثانية للتفاوض مع حزب الحركة القومية برئاسة وزير الثقافة والسياحة عمر تشيليك، بعد استبعاد فكرة الائتلاف مع الشعوب الديمقراطي، لرفض الأخير وعدم تفضيل أنصار الأول ذلك.
ثم ستعرض اللجنتان تطورات هذه المباحثات -التي ستجرى بشكل منفصل ومتزامن- على لجان عليا ثلاث شكلها الحزب مؤخرًا أيضًا: الأولى سياسية برئاسة داود أوغلو نفسه، والثانية اقتصادية برئاسة نائب رئيس الوزراء لشؤون الاقتصاد علي باباجان، والثالثة قانونية برئاسة نائب رئيس الحزب للشؤون السياسية والقانونية محمد علي شاهين، بحيث يتخذ القرار النهائي مركزيًا وتتجمع كل الخيوط عند داود أوغلو.
بيد أن الخطوط الحمراء التي وضعها الحزبان المعارضان والشروط شبه التعجيزية التي طرحاها بين يدي تشكيل الحكومة تشير إلى صعوبة المرحلة القادمة. فقد وضع الحركة القومية ثلاثة شروط لا يمكن التراجع عنها في مقدمتها إلغاء عملية السلام مع الأكراد، بينما صاغ الشعب الجمهوري 14 مبدأ ينبغي على العدالة والتنمية القبول بها إن أراد الائتلاف الحكومي معه، من بينها “إعادة أردوغان إلى الإطار الدستوري”.
ومع كل هذه الشروط وفي ظلها، يرى كل من الحزبين المذكورين فرص مشاركته في الحكومة ضعيفة، راميًا الكرة في ملعب الحزب الآخر، بما يوحي بفشل متوقع في المفاوضات القادمة، رغم أن الحديث المتشنج الآن قد ينقلب براغماتية مقبولة لدى الجلوس على الطاولة.
من ناحية أخرى، تناقش الأوساط السياسية والإعلامية -وفي مقدمتها العدالة والتنمية بالطبع- منذ اللحظة الأولى للانتخابات إيجابيات وسلبيات الحكومة الائتلافية المنتظرة، في ظل تاريخ تركي غير مشجع معها؛ حيث كانت في الأغلب عنوانا للانسداد السياسي والفشل الاقتصادي، مما أدى لانهيار أغلبها وصولا للحظة الانتخابات المبكرة.
يضاف إلى ذلك عدم رغبة الحزب الحاكم في تقديم تنازلات كبيرة في الملفات المهمة في مشروعه “تركيا الجديدة” الذي يعمل عليه منذ 2002، سيما في ملفي السياسة الخارجية وعملية السلام الداخلية، فضلا عن محاولات المعارضة إضعاف موقع وصلاحيات رئيس الجمهورية.
وفي ظل تضاؤل -إن لم نقل غياب- فرص اتفاق الأحزاب المعارضة الثلاثة على تشكيل حكومة ائتلافية تستثني العدالة والتنمية، تبدو البلاد ماضية نحو الانتخابات المبكرة، سواء بفشل تشكيل الحكومة أو بعدم قدرتها على الاستمرار؛ إذ إن أي صيغة ائتلافية تحمل في ظل الاستقطاب السياسي الحاد عواملَ فشلها الذاتية، ويستبعد أن تستكمل فترة الأربع سنوات الدستورية.
إذًا، بين يدي كل هذه المعطيات، يبدو سيناريو الانتخابات المبكرة -المباشرة أو اللاحقة- هو الأكثر حظًا، وعلى أساسه تعمل -من وجهة نظري- جميع الأطراف، فتقدم إزاء تشكيل الحكومة خطابًا مرتفع السقف لزيادة المكاسب، بينما ترضي الناخب بخطاب الحرص على تشكيلها لإنهاء حالة الفوضى أو الفراغ السياسي.
من جهته، فقد عكف العدالة والتنمية منذ السابع من يونيو الماضي على دراسة النتائج بشكل تفصيلي، مستخلصًا الدروس المتضمنة فيها في مختلف المناطق والدوائر الانتخابية، لمحاولة استعادة ما فقده من ناخبين كانوا يدلون بأصواتهم له، سواء من صوتوا للحركة القومية أو الشعوب الديمقراطي أم من أبطلوا أصواتهم، فضلا عن المقاطعين. ويرى الحزب من خلال هذه المراجعات -التي انعكست على مستوى الخطاب والممارسة ولو جزئيًا- إمكانية عودته للأغلبية البرلمانية، بحيث تغدو الانتكاسة مجرد فترة مؤقتة يعود بعدها للحكم منفردا مما يؤهله لاستكمال مشروعه وتحقيق رؤيته.
لكن، من ناحية أخرى، يبدو الذهاب للانتخابات المبكرة مغامرة قد لا تكون محسوبة بشكل جيد؛ إذ لا يمكن ضمان حدوث تغير ملموس ومؤثر على النتائج خلال هذه الفترة الوجيزة (يتوقع أن تجرى الانتخابات المبكرة في نوفمبر المقبل)، بينما يخشى أن يستمر نزيف الأصوات و/أو عزوفها عن المشاركة، خصوصًا إذا ما جرت الانتخابات بعد فشل الحكومة الائتلافية في حل مشاكل البلاد، أو إذا ما شعر الناخب برغبة الحزب في إعادتها حرصا على الحكم، وهو ما يحاول الأخير تفنيده ونفيه دائمًا والتأكيد على تقديم مصلحة البلاد على مصلحته.
أخيرًا، ما هي السيناريوهات المتوقعة حتى الانتخابات المبكرة، في حال فشلت جهود تشكيل الحكومة، سواءً كانت حكومة ائتلافية أم حكومة أقلية؟
في الحقيقة، ثمة أكثر من سيناريو محتمل، تشمل جميعها تشكيل حكومة مؤقتة للتحضير للانتخابات. ففي المقام الأول، يعطي الدستور للرئيس الحق في الدعوة لتشكيل حكومة من كل الأحزاب الممثلة في البرلمان بنفس نسبها فيه، كما يمكنه -إن أراد- أن يشكل حكومة من المستقلين التكنوقراط.
من ناحية أخرى، فإنه يحق لمجلس الشعب أن يصوت على استمرار الحكومة الحالية في تسيير الأمور لحين عقد الانتخابات.
بيد أن حزب الحركة القومية الذي رفض التصويت لمرشح الشعب الجمهوري المعارض متسببا بانتخاب مرشح العدالة والتنمية رئيسا للبرلمان فقط “حتى لا يكون في نفس الموقف والتصويت مع الشعوب الديمقراطي” يعطي للحزب الحاكم أملا في موقف مشابه، ويصعّب من ناحية أخرى فكرة الحكومة المتمثلة بالأحزاب الأربعة التي سيكون فيها الوزراء القوميون والأكراد جنبا إلى جنب فيها، مطبقين نفس السياسات.
وبالتالي، يمكن توقع اعتذار الحزب القومي عن المشاركة في هذه الحكومة تاركا حقائبه لمستقلين، أو -وهذا الأرجح- أن يساند العدالة والتنمية في الاستمرار في تسيير شؤون البلاد لحين إجراء الانتخابات -التي قد تؤجل حينها- أو يدعم حكومة أقلية يشكلها الأخير دون المشاركة بها.
سيناريو كهذا سيريح العدالة والتنمية مؤقتا، وسيساعده على البقاء في الحكم منفردا، لكن ليس لفترة طويلة؛ إذ سيبقى قرار استمرار الحكومة بيد الحزب القومي المتشدد، وهو ما يعني أنها ستكون قصيرة العمر، وأن سيناريو الانتخابات المبكرة -مرة أخرى- هو الأوفر حظًا كنهاية متوقعة ومشتركة لكل السيناريوهات المطروحة حاليًا.