الضحية الأولى للحرب هي الحقيقة. والضحية الأولى لما يُسمى «الإرهاب» هي الحرية. ذلك ما كشفت عنه جريمة قتل السيّاح في شواطىء مدينة سوسة التونسية أواخر شهر (يونيو) المنصرم والتي راح ضحيتَها 38 سائحاً معظمهم بريطانيون.
لم ينتظر رئيس الحكومة، حبيب الصيد، طويلاً حتى خرج أمام الكاميرات ليعلن قرارات أبرزها إغلاق 80 مسجداً «تنشر السم» في المجتمع بحسب تعبيره. مذبحة سوسة تبعتها مذبحة للمساجد من غير جريرة وجُناح.
هل كانت المساجد تحرض على التطرف بعلم الحكومة قبل المذبحة، وكانت تغض عنها الطرف؟ أم أن الحكومة استغلت فقط الحادثة لتلقي اللوم على المساجد وتتنصل من مسؤولياتها؟ وكيف أمكن التأكد من أن كل هذه المساجد «الخارجة عن سيطرة الدولة» بحسب الخطاب الرسمي تشجع «الإرهاب»؟ رئيس حزب جبهة الإصلاح (السلفي)، رشيد الترخاني، قال إن قرار الحكومة إغلاق عدد من المساجد (والجمعيات الدينية) يشير إلى «عمق حالة الارتباك في أدائها والذي يصب في إعادة البلاد إلى مربعات الاستبداد والفساد» داعياً الحكومة إلى التراجع عن القرار لأنه ليس «حلاً، بل سيعمّق الإحساس بالظلم».
الشيخ رضا الجوادي، الإمام والخطيب بجامع اللخمي في مدينة صفاقس جنوب شرقي العاصمة تونس، قال إنه لا توجد مساجد «خارج السيطرة» في البلاد، بل مساجد تنتظر «تسوية وضعها القانوني» فقط (إذاعة جوهرة إف إم، 5 يوليو 2015). الجوادي أكد لموقع «الصدى» أن ثمة «إيديولوجية سياسية حاقدة» تتحيَّن فرص الكوارث التي تحل بالبلاد، كالجريمة «البشعة» في سوسة، «لتصفية حسابات سياسية وحزبية وإيديولوجية»، وأن ثمة أقواماً حاقدين على المساجد وعلى الأئمة، لاسيما «أولئك الذين لم يدخلوا بيت الطاعة التابع للحزب الحاكم، والذين كانوا رموزًا للثورة» مضيفاً: «هذه سياسة تجفيف منابع التدين تعود من جديد، ولا ينقصها إلا عودة ابن علي» (موقع الصدى نت، 4 تموز/يوليو 2015). الشيخ الجوادي على حق. رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، أصدر قراراً بإعفاء الدكتور عبد الله الوصيف، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، من منصبه إثر رسالة وجهها إلى الإذاعة الوطنية، طالب فيها بإيقاف برنامج «عيال الله» الذي يقدمه «فيلسوف» اسمه يوسف الصديق، ينكر قدسية القرآن، ويعتقد أنه محرّف، ولا يرى فرقاً بين النبي (صلى الله عليه وسلم) وشكسبير إلا في الحظ بحسب زعمه.
الشيخ راشد الغنوشى، رئيس حركة «النهضة»، وهي أكبر حركة إسلامية في البلاد، علّق على هجوم سوسة وتداعياته بالقول إنه لا يجوز تحميل الإسلام، أو فئة مجتمعية بعينها، مسؤولية الهجوم، محذراً من استغلاله لتقليص حجم الحرية ومصادرة مكتسبات الثورة، ومطالباً بتطبيق القانون على المتدينين وغيرهم. ورفض الغنوشي أي اتهامات لحركته بالمسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عن جريمة سوسة، واصفاً ذلك بأنه «استثمار» في مصائب التونسيين.
وأقر بوجود استياء في قطاع من شباب حركته والشباب الإسلامي عموماً من قرار إغلاق عدد من المساجد والجمعيات الدينية مشيراً إلى أن 90 % من عمليات استقطاب الشباب لتنفيذ عمليات عنف تحدث عبر المواقع الشبكية لا عبر المساجد، مضيفاً أن المعالجة الأمنية لا تكفي وحدها لمعالجة الظاهرة، بل لابد من معالجات فكرية وإعلامية واجتماعية واقتصادية أيضاً، لاسيما أن معظم التطرف يأتي من مناطق الأطراف التي لم تحظ بقدر معقول من التنمية.
وعزا الغنوشي زيادة عدد المتشددين إلى «تقويض» دولة الاستقلال البنية الدينية التقليدية عبر إغلاق جامع الزيتونة الذي كان يمثل المرجعية الدينية المعتدلة، ما خلّف فراغاً ملأه متدينون باستيراد تدينهم من الفضائيات والإنترنت، «فضلاً عن إبعاد النهضة بصفتها حركة إسلامية معتدلة بطريقة إقصائية عنيفة». وأكد الغنوشي أن دور حركته الآن هو الأكبر على الساحة لمحاربة ظاهرة «الإرهاب» لاسيما «أنها الوحيدة القادرة على منازلة التكفيريين والمتشددين على أرضية الإسلام نفسها، وإقناع الناس بأن هؤلاء ليسوا على شيء من الدين» (جريدة الشروق التونسية، 2 يوليو 2015).
لكن الحكومة التونسية مضت في مقاربتها الأمنية، أو بكلمات أكثر دقة، في استغلالها الحدث لتنفيذ أجندة معدة سلفاً قد تعيد تونس مرة أخرى إلى عهد الدولة البوليسية. الرئيس الباجي قايد السبسي صرّح اثناء تفقده مكان الهجوم في سوسة بأنه سيدعو الحكومة إلى مراجعة قانون الأحزاب، ملمّحاً إلى احتمال حظر بعضها. بعد ذلك قال الوزير المكلف بالعلاقات مع منظمات المجتمع المدني، كمال الجندوبي، إن الحكومة ستعطي حزب التحرير (إسلامي) «مهلة للقيام بالإجراءات المخوّلة لإصدار قانون أساسي ينظم نشاطه».
لم تكتف الحكومة بذلك، فألقى السبسي خطاباً في التلفزيون الرسمي يوم السبت 4 تموز (يوليو) أعلن فيه حال الطوارىء في البلاد مدة 30 يوماً، ما يمنح الحكومة سلطات استثنائية لاسيما ما يتعلق بحظر التجول، ومنع المسيرات والإضرابات، وتنفيذ عمليات دهم للمنازل ليلاً ونهاراً من دون إذن قضائي، ومراقبة الصحف والمطبوعات الأخرى.
هل تحقق هدف الهجوم إذن؟ هل نجح مهندسو جريمة سوسة في جر البلاد إلى المربع الأمني مرة أخرى؟ لم يكن السيّاح وحدهم الضحية. الحرية تدفع الثمن، وأنصار العهد القديم يشمتون بهذه الحرية، ويجهرون بأنها مصدر كل الشرور، وكأن على التونسيين أن يختاروا بين قمع غشوم، وإرهاب يدوم.
في لغة السياسة، لا يخرج السياسي الراغب في تقييد الحريات على التلفزيون أو أمام الجمهور ليهجو هذه الحريات، ولكن ليعلن حزمة من القوانين التي تهددها متذرعاً بالإرهاب أو الفوضى، ومخفياً أنه يريد تشديد القبضة الأمنية، ومصادرة قدرة الشعب على الاعتراض. لا شك أن في تونس، كما كان عليه الأمر في مصر، من يتشهّى غرق البلاد في دوامة عنف لا تنتهي، حتى يجد مستنداً لروايته في عدمية الثورات.
ولا شك أن هناك حرساً قديماً، كما في مصر، خسر مصالحه بسبب الثورة، ويتحيّن الفرصة للانقضاض عليها بحجة «الإرهاب». من نفّذ مذبحة سوسة؟ من يقف وراءها؟ وهل ثمة قوى من «الدولة العميقة»، أو استخبارات إقليمية أو دولية متورطة في الهجوم؟ وما هي أسباب هذا العنف الأعمى وجذوره؟ لا أحد يحاول جاداً الإجابة عن هذه الأسئلة، وينصرف الاهتمام، بدلاً من ذلك، إلى معاقبة مساجد وأئمة وأحزاب وصحف وقنوات تلفزيونية تُعلَّق عليها الإخفاقات الحكومية، وتتعالى أصوات مألوفة سمعناها حتى في السعودية: «لا تبرروا العنف حتى بقول: ولكن»، و «لا صوت يعلو فوق صوت الحرب على الإرهاب»– هيجان دعائي مشحون بالعاطفة والتحامل يغيّب عمداً كل مساءلة، وكل سبر لأغوار المشهد، ويطلق يد النخبة الحاكمة في التغول على المجتمع، وبسط هيمنتها عليه.
كانت الجوامع في تونس ضحايا لمذبحة سوسة، لكنها ليست آخرها. إعلاء قيمة القانون، مراعاة المشاعر الدينية لاسيما في شهر رمضان، والتماهي مع روح الثورة، كلها ضحايا غير مرئية. جريمة سوسة -كغيرها من جرائم كثيرة سبقتها في تونس وخارجها- لم تكن سوى أداة رخيصة قتلت أبرياء على شاطىء بحر، وقتلت أشياء وأناسيّ كثيراً غيرهم، لكنهم فقط لم يظهروا في العناوين.
المصدر- موقع العرب