جاء خبر مقتل النائب العام المصري، المستشار هشام بركات، صادمًا ومفاجئًا، خاصة مع إعلان الداخلية عن تخصيص أعداد غفيرة من الفرق الأمنية لتأمين الاحتفالات التي كان مزمعًا أن تتم في ذكرى 30 يونيو، على حد قول المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية.
وحادثة الاغتيال هذه وما أحاط بها، تشكل علامة استفهام في واقع أضحى ملتبسًا، تغيب عنه المعلومة ويفلت عادة فيه الجناة الحقيقيون من العقاب، وقد تلصق الاتهامات الإعلامية جزافًا بصورة استباقية أوتوماتيكية.
واقع تتدافعه الأحداث اليومية بمزيد من القسوة والارتباك. وبالنسبة للمتابع الموضوعي، سواءً توفي الرجل مباشرة إثر جراحه جراء التفجير، أم جراء إصابته أثناء عبوره الطريق للهرب إلى منزله كرواية أخرى، أو إثر نزيف بعد محاولات إسعاف، أو أي رواية أخرى.. في النهاية، رحل الرجل في حادثة مفجعة ومؤسفة، رحل تاركًا التساؤلات؟؟!! وستظل تلك التساؤلات تدور في ذهن كل مصري، وتحضر مستنفرة العقل المثقل والمتعب من مثل تلك الأحداث الدامية.
فعندما تقرأ شهادة، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي الدكتورة عزيزة عبدالرازق، وإحدى جارات النائب العام هشام بركات بشارع عمار بن ياسر بحي مصر الجديدة، التي لا يفصل منزلها عن منزله سوى سور حديقة، قالت فيها: “توقعنا الحادث في أي وقت بشكل سهل؛ نظرا لأن التأمين من قبل وزارة الداخلية غاية في السذاجة بل توقعنا ما هو أسوأ من ذلك”.
والشيطان دائمًا يكمن في التفاصيل، ولذلك ما هي تفاصيل سيناريو التأمين الذي تغيب عنه المهنية وخطة التأمين التي توصف بالسذاجة كما سبق ووصفتها الجارة في تصريحها للأهرام، وهل هذا يصب في دائرة الإهمال أم الإهمال المتعمد، ومن المسؤول ومن المستفيد؟!!
وما هي طبيعة حركة المقاومة الشعبية تلك، التي أعلنت أنها المسؤولة عن الحادث عبر حساب لها على مواقع التواصل؟!!
أسئلة كثيرة تطرح نفسها، ولا أجوبة ولا معلومات كافية لتعطي التصور الذي يقارب المعادلة لتوقع مجريات الأحداث، وما قد يحمله الغد القريب للمشهد المصري الذى لم يغادر مربع الحلول الأمنية، التي عادة ما تفضي لمزيد من العنف والعنف المضاد، في دائرة جهنمية خبيثة ملتهبة نارية وغير منتهية، ولسان حال المواطن البسيط يتساءل: ماذا بعد اغتيال النائب العام، هل هي نقطة فاصلة لمرحلة أشد قسوة وعنفًا أم أنها نقطة كاشفة؟!!
وما بين الأصوات التي تنادي بتنفيذ فوري وميداني لأحكام الإعدام بالجملة، التي سبق وصدرت على قيادات التيارات الإسلامية وتحميلها هذه الجريمة، وما بين أصوات تتشفى في هذه الواقعة وتحمّل هذه الشخصية (محامي الشعب) اختلال موازين العدالة أو غياب منظومة العدالة بكاملها.
ما بين هذا وذاك، تستمر ظاهرة الانقسام الإنساني وتعقيدات المشهد الاجتماعي لتجذب في كل يوم المزيد من النازحين من الفضاء العام؛ فضلًا عن عودة فرق التحريض الإعلامي للعمل بأقصى قوة، لتحل محل المحقق والقاضي والشرطي، لتجد نفسك أمام زار ببلدي تقرع فيه آلات وطبول الحرب وتتعالى فيه الصرخات والتعاويذ حتى تفقد الضحية (المشاهد أو المستمع) الوعي، لتلقي بعقلها لهؤلاء أو لتخرج حاملة السيف للقصاص، ولتقتل من يقابلها ولو بالصدفة.
وتجد الفضائيات تعرض مشهدًا لشاب اجتمع عليه عدد من المواطنات والمواطنين الشرفاء وأوسعوه ضربًا بالأحذية وسددوا له “علقة موت” كما يقولون؛ لرفعه شعار رابعة الذي أعلنت المنصات الإعلامية أنها لحظة التخلص منه، وتناوبت الدعوات من إعلام جوبلز على ضرورة استبدال اسم ميدان رابعة العدوية بمدينة نصر إلى ميدان هشام بركات للتخلص إلى الأبد من صداع هذا الشعار، الذي يجول العالم ليتحدث عن وحشية القتل وعنف النظام في اجتثاث خصومه السياسيين، وهذا هو نهج منصات الحرب الإعلامية في مناقشة الأفكار المخالفة، الذي انتهجته الأنظمة المتعاقبة في معركة لا عقل فيها ولا حوار.
العجيب، هو مشهد الجنازة الذي يظهر فيه رأس الدولة في منتهى الغضب ويدفع القضاة في خطاب حماسي انفعالي لتبني ما أطلق عليه آليات العدالة الناجزة، التي ستحرر يد القضاء المصري من القيود، التي تقف أمام تنفيذ الأحكام، وبالطبع يقصد تنفيذ أحكام الإعدامات بالجملة، وخاصة على الخصوم السياسيين.
تلك الأحكام التي انتقدها العالم بكل منظماته المعنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان؛ بل راح سبعة من المقررين الخواص بالأمم المتحدة لوصف تلك المحاكمات التي تفتقد لمعايير المحاكمات العادلة بالأحكام المخزية التي تستهين بالحق الأساسي في الحياة.
ولكن، ورغم كل ذلك، يتحدث الرجل عن ضرورة إطلاق يد العدالة الناجزة، والتي بالطبع وقفت عاجزة أمام تثبيت سلطة النظام، وعجزت عن التكميم الكامل للأفواه، وعجزت عن إخماد حراك الشارع والشباب؛ رغم إساءة استخدامها من قبل النظام، ما وضعها في حرج شديد أمام العالم.
ولم يكتف هذا النظام بكل تلك الممارسات؛ بل راح يوجه علنًا أمام الكاميرات، ولا أعلم إن كان يدرك أن مجرد التأثير على رأي قاضٍ أو توجيهه، يعد جريمة وجريمة دستورية عظمى تنال من مبادئ استقلالية القضاء والمحاكمات التي نص عليها الدستور، الذي يجب عليه مبدئيًا ألا يخدشه بهذه الصورة الغليظة وينتهكه أمام المارة وأمام كاميرات العالم، وعدوى الانتقام الفيروسي التي يحملها النظام ويرغب في نقلها مباشرة للغير، وتجعله من الوهلة الأولى ودون أية تحقيقات أو تحريات يرمي باتهامات وأحكام جماعية ضد فصيل سياسي، ولا يدرك أن القانون الجنائي الطبيعي يعترف فقط بشخصية الجاني وبعد حكم قضائي نهائي وبات وشروط وضمانات محاكمات وإجراءات سليمة وموضوعية ومحايدة.
وهذا كله يتنافى مع المظروف الأسود المغلف بالانتقام، الذي يحتوي بداخله على حزمة من القوانين الاستثنائية سريعة التجهيز، لنسمع بتعديلات لقانون الإجراءات الجنائية في طريق إقرارها لتسريع عجلة المحاكمات وتخفيض ضمانات الدفاع والحقوق الأساسية مثل حق الدفاع والحق في التمسك بمناقشة كافة الشهود أمام منصة القضاء.
حزمة من القوانين الاستثنائية بشر بها رئيس السلطة التنفيذية، يحملها له للأسف وزير العدل، لندخل مرحلة أخرى من مراحل شرعنة وتسريع القتل الجماعي بالقانون في غيبة من برلمان منتخب، يتم إقرار سيل من القوانين التي أضعف ما توصف به أنها قوانين استثنائية ولا تتفق أبدا مع الدستور أو الاتفاقيات الدولية التي صادقت مصر عليها، ولكن كما يقولون كله لأجل عيون الإرهاب وعلى بابه فلتسقط وتذهب للجحيم كل الحقوق الأساسية والحريات!!!!
وسرعة رد الفعل هذه في ترتيب وإعداد تلك الحزمة من القوانين لتمريرها في لحظة انفعالية، كرد فعل انتقامي ينال لأول مرة من قانون الإجراءات الجنائية، هذا القانون الهام والخطير، الذي تعلمنا في كليات القانون أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات هي التعديلات الأصعب على الإطلاق؛ لأنها لا بد أن تتسم بالاستقرار والعدالة والحيادية وضبط الصياغات، لا الاستثنائية لتأثيرها على استقرار النظام الجنائي في المجتمع، وما له من تأثير كبير في استقرار ووضوح ما هو مجرّم وغير مجرّم وحتمية توافق هذه القواعد مع الدساتير والاتفاقيات والتعاهدات، لأن كل تلك المعايير تصب في النهاية لمصلحة استقرار المجتمعات.
ولذلك، هذه الرعونة في التلويح بحزمة من القوانين الاستثنائية، التي تنتهك حرمة قانون الإجراءات الجنائية بلا رابط أو ضابط، اللهم إلا شبهة رد الفعل الثأري والانتقامي، كل تلك أمور خطيرة وتهدد استقرار النظام القضائي والعقابي، ويستتبعها بالتالي كارثة غياب معايير العدالة، وما لها من تأثير على استقرار المجتمع وأمنه.
ورغم أصوات الانفجارات وهذه الحادثة الإرهابية المدانة، ولكنها لم تسبب لمنظمات حقوق الإنسان عقدة الذنب كما في الداخل المصري، وتجعل العالم كله يقف أمام صوت المعركة ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
معركة خلق العدو وتغذية العنف بمزيد من القمع والظلم، هي معادلة مفضوحة يرصدها الجميع وتعرفها الأنظمة ولا تعطى ميزة استثنائية بدعاوى محاربة الإرهاب، وستعلو الأصوات لإدانة كل تلك الإجراءات الاستثنائية، وهذا ما ذهبت له منظمة مثل منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر بمناسبة ذكرى 30 يونيو لتقول فيه: إن مصر أصبحت دولة قمعية.
واتهمت المنظمة غير الحكومية ومقرها لندن، حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي بالسعي إلى “قتل أي مستقبل يهدد سلطته في المهد”.
وأضافت أن “المظاهرات الشعبية استبدلت باعتقالات جماعية”، وأن “ناشطين شبانًا يقبعون وراء القضبان، وهذا يشهد على أن الدولة ارتدت كي تصبح دولة قمعية”.
وأوضحت منظمة العفو الدولية -في تقريرها- أن السلطات المصرية قامت بموجة جديدة من الاعتقالات منتصف 2015 مع ما لا يقل عن 160 شخصًا في حالة “اختفاء قسري”، وشددت على أن القمع الذي بدأ ضد الإسلاميين في يوليو 2013 توسع سريعًا ليطال كل المشهد السياسي المصري.
ولفت نظري أيضًا، ما قاله ريكارد غونزاليس (36 عامًا) وهو مراسل “إل باييس” في مصر منذ 2011، وكذلك صحيفة “لا ناسيون” الأرجنتينية، أنه غادر مصر قبل أسبوعين.
وروى غونزاليس، لـ”فرانس برس”، عبر الهاتف: “أبلغتني السلطات الإسبانية أن خطرًا وشيكًا بالاعتقال والاتهام يهددني، وأن هذا الأمر قد يكون خطيرًا، لقد نصحتني بمغادرة البلاد”. وأضاف “طرحت أسئلة عن طبيعة التهديد لكنهم لم يدلوا بتفاصيل”.
وأوضح الصحفي، أن سفارة مصر كانت أبدت تحفظات عن كيفية تغطية “إل باييس” للسياسة التي ينتهجها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وتابع: “قام السيسي بزيارة إسبانيا ونشرنا بعض المقالات والافتتاحيات المنتقدة. قد يكون لهذا صلة بما يحصل اليوم”.
كما أوضح أن خطر اعتقاله قد يكون مرتبطًا بالكتاب الذي نشره في مارس تحت عنوان “صعود وسقوط الإخوان المسلمين”، الجماعة التي ينتمي إليها الرئيس المصري السابق محمد مرسي، التي تعتبرها السلطات المصرية إرهابية.
وقال غونزاليس: “حاولت فعلًا أن أكون موضوعيًا ومحايدًا؛ الكتاب ينتقد الجانبين، النظام الحالي والعام الذي حكم خلاله الإخوان المسلمون”.
ونفى أن يكون تعرض لأي نوع من أنواع الترهيب في مصر، علمًا بأنه اتهم الحكومة المصرية في مقال نشر على موقع “إل باييس” بترهيب المراسلين الأجانب “عبر اعتقالهم لبضع ساعات من دون دافع واضح”.
وتطرق في مقاله إلى الصحفيين المصريين، لافتًا إلى أنهم “مهددون بالطرد والاعتقال والملاحقة أمام القضاء وأحيانًا التعذيب إذا لم يلتزموا السياسة الرسمية”.
الكارثة هي الاستمرار في النهج العنيف والثأري الأمني والآن (القانوني الاستثنائي)، هذا التغافل والاستمرار في حالة الإنكار وإيجاد المبررات لكل تلك الانتهاكات الشبه يومية، التي يوميا تنال من سمعة النظام وتوصم النظام القضائي بعوار شديد تتعمد السلطة انغماسه أكثر وأكثر في إجراءات استثنائية تضر أكثر ما تفيد.
في ظل انقسام مجتمعي وسياسي يتنامى ويتمترس فيه من بيده موازين القوة في خندق مظلم لاجتثاث كل خصم، وتكميم كل صوت يخالف هذه الدائرة الانتقامية ليطالب بحلول سياسية لأزمة هي الأخطر على حياة ومستقبل بلادنا.
غياب العدالة وإجراءاتها غياب خطير، وكارثية إقرار انتهاكات استثنائية تمس حرمة قانون الإجراءات الجنائية ستسهم بشكل كبير في معاناة الكثيرين وتضخيم مخاطر الظلم والمظلومية.
واعتقد أنها ستأتي على الأخضر واليابس، وتنذر بمراحل من تصعيد موجات العنف والعنف المضاد.
حفظ الله بلادنا من الثأر والانتقام والتحريض والمحرضين.