على الرغم من قلة المسافة وعدد الساعات بينها وبين القاهرة، إلا أن الحكومة أهملت محافظة المنيا كسائر مدن الصعيد، ووفقًا لمؤشرات خطة التنمية الاقتصادية، فإنَّ معدلات الفقر في هذه المحافظات نحو 35.6% في المتوسط؛ حيث تتراوح معدلات الفقر بين 39% في محافظة بني سويف، و30% في محافظة المنيا.. بينما يقل حجم الاستثمارات الموجهة إلى هذه المحافظات؛ حيث تستحوذ محافظة المنيا على 44% باعتبارها أكبر المحافظات في شمال الصعيد من حيث عدد السكان.
وتزداد كثيرًا نسبة الفقر في شمال الصعيد، مما يدفع أبناء هذه المحافظات إلى الهجرة للقاهرة للبحث عن فرص عمل مناسبة، وذلك إن استطاعوا سفرًا، ولا يدل ذلك على غير أن الحكومة لا تزال تسير في طريق المركزية؛ حيث تتركز الخدمات وفرص العمل والاستثمارات في مكان واحد فقط العاصمة، وفي الغالب حتى الاستثمارات التي تعلن الحكومة توجيهها إلى الصعيد تكون غير مكتملة أو لا يتم إقامتها من الأساس.
هُنا.. قرية ريحانة
منازل متهالكة تشرف على الانهيار.. أغلبها تحت أدنى مستوى للمعيشة.. عدا قلة من منازل أصحاب العائلات فقط..
دولاب صغير من الصاج.. طبلية.. أرض أسمنتية.. سقف من الخشب أو الطين.. غسالة قديمة.. أو ربما لا توجد، دورات مياه بلا صرف صحي.. مستوى معيشي تحت المتدني.
رضا، فلاح مزارع، يعمل باليومية.. لا يوجد له مصدر دخل آخر، أصيب بالتهاب في الرأس وفقرات الظهر على حد قوله: “لو مااخدتش العلاج ادوخ”، يقول رضا الذي لا يعرف كم بلغ من العمر: “لدي ولدين وبنت.. توقفوا عن التعليم منذ الابتدائية؛ لأنه لا يوجد دخل كافٍ يغطي مصاريفهم”.
منزل رضا (مصطبة وترابيزة خشب وتلفاز قديم أبيض وأسود.. ربما أصلًا لا يعمل.. تشت غسيل.. لايملك ثمن الغسالة.. وإن وجدت بالتقسيط (هنجيب فلوس الكهربا منين.. كفاية علينا النور).
لم تتغير المأساة كثيرًا عن أسرة “بدوي” الذي يقطن القرية نفسها، مع الخيط الأول من نهار كل يوم جديد يخرج “بدوي” الذي يبلغ من العمر ما يقرب من 15 عامًا أو يزيد.. يتبعه شقيقه الأصغر ابن العشرة أعوام.. ليحمل كل منهما قفته الخاصة.. ليعمل في الفيط.
هذا الشهر هو موسم البنجر.. وتعتمد القرية على زراعة البنجر؛ وذلك لأنها من قرى مركز أبو قرقاص؛ حيث مصنع السكر الوحيد بالمنيا، ثم يعود الطفلان بما يسد الرمق لأسرتهما التي تتكون من الأم جمالات وفتاتين في عمر الزهور غير مسموح لهما بالعمل وفقًا لعادات القرية.. تركهم والدهم بعد الانفصال من أمهم دون تحمل عبء المصاريف.
هُنا لا يجد الأهل عيبًا أو أدنى إحساس بالذنب تجاه عمالة الأطفال أو المجاهرة بتسريب أبنائهم من التعليم.. واعتمادهم على أبنائهم لتحمل مصاريف المنزل.
عشرات القصص والمنازل تتشابه في نفس الحال والمأساة كأنها منسوخة من بعضها البعض.. نفس الوجوه الشاحبه اليائسة.. التي تأقلمت على الواقع المرير ونسجت منه حياتها الخاصة في انتظار الفرج القريب من حيث لا يحتسبون.