يدور التساؤل باستمرار، عن موقف حزب مصر القوية، وبالأخص موقف رئيسه، من الأحداث الجسام التي تمر بها مصر؟
والتساؤل يبدو منطقيًا ومتفهمًا في ظل سلطة أمسكت بزمام الأمور منذ الثالث من يوليو لعام 2013، فاعتبرت أن لا صوت يعلو فوق صوتها، وأن لا سياسة في هذا البلد إلا ما ارتآه الرئيس ونظامه، سلطة تعتبر تعدد الآراء خيانة، ونقد مواقفها جريمة، سلطة تعتبر أن تعدد السلطات وتوازنها والفصل بينها بدعة منكرة لا حاجة لمصر بها، سلطة تعتبر أن السيادة ليست للشعب ولكنها لأركان أجهزة الدولة التي لا رقيب عليها ولا حسيب، إلا أننا منذ الثالث من يوليو، لم تتح لنا فرصة أو مساحة لنعرض فيها رأيًا أو نرفع فيها صوتًا إلا في إطار محدود ضاق تدريجيًا حتى تلاشى ذلك الإطار تمامًا.
لعل هذه فرصة أطرح فيها بعض الآراء والمواقف لحزب مصر القوية، طوال عامين ونصف عام مضت، وأطرح فيها رؤية لما هو مأمول، لعل فيها ما يجبر أطرافًا على الاستماع لصوت مختلف يحاول أن يعلي صوت العقل على أصوات الصراخ والعويل والتخوين والتكفير التي علا صوتها قسرًا أو عاطفة، فوق كل ما عداها من أصوات.
(1)
نشأ الحزب في نوفمبر 2012، مع أزمة الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الدكتور محمد مرسي منفردًا دون مشاورة، فظهرت حالة الصدام العنيفة بين القوى السياسية المؤيدة له من جانب، والمعارضة له من جانب آخر.
لم تكن -في تقديرنا- أزمة الإعلان الدستوري وقتها في إبعاد النائب العام المعين من قبل نظام مبارك الذي ثار عليه الناس والذي كان مطلبًا ثوريًا بامتياز في ميدان التحرير طوال أيام ثورة يناير المجيدة، ولا في مبدأ إعادة المحاكمات وفق قواعد سليمة، لا تستند إلى ما سنه نظام مبارك وأجهزته من مبادئ قانونية وإجراءات جنائية، ولكن الأزمة الحقيقية كانت في بعض بنود الإعلان الدستوري مما أشار إلى خلط الرئيس ومعاونيه وحزبه بين العمل الثوري والإصلاحي في آن واحد، فقد كان هناك تهاون واضح بل تواؤم مع أجهزة القمع والفساد في الداخلية والجهاز البيروقراطي كوسيلة إصلاحية من جهة، في مقابل رغبة في الانفراد بالتشريع وتهميش الرقابة على السلطة كوسيلة ثورية مدعاة من جهة أخرى.
لم يكتف الرئيس بهذا التناقض في الجمع بين المسارين الإصلاحي والثوري، ولكنه أصدر ذلك الإعلان الدستوري دون تشاور مع جهات كثيرة معنية، بمن فيهم مستشاروه، بل نائب رئيس الجمهورية، وهو أحد القضاة الأجلاء، مما أدى إلى تفاقم الأزمة وتعميقها وإثارة الشكوك حول نوايا الرئيس، الذي قابلته في قصر الاتحادية قبل إصدار الإعلان الدستوري بأيام قليلة وأبديت له كامل استعدادي للتعاون فيما يريده لمصلحة الوطن دون تولٍ لأية مسؤولية.
فضلنا في حزب مصر القوية، في ظل هذه الأزمة العاصفة، ألا نكون جزءًا من جبهة الإنقاذ التي عرض علينا أن ننضم إليها؛ حيث فضلنا أن نبذل قصارى جهدنا لحل الأزمة في إطار يحافظ على إقالة النائب العام وعلى مبدأ إعادة المحاكمات دون انجرار لمساحات انقلاب على الرئيس المنتخب ديمقراطيًا من خلال إثارة الشارع واستغلال الأزمة لمكاسب ضيقة.
تواصلنا مع نائب رئيس الجمهورية المستشار محمود مكي، ورئيس ديوان رئاسة الجمهورية السفير رفاعة الطهطاوي، ومدير مكتب الرئيس الدكتور أحمد عبدالعاطي، وقدمنا مبادرة متكاملة للحل لا تكتفي بمعالجة آثار أزمة الإعلان الدستوري فقط، ولكنها تمتد إلى ضبط تشكيل الجمعية التأسيسية، وضمانات للتوافق على مسودة الدستور قبل طرحها للاستفتاء، والتوافق على قانون عادل للانتخابات البرلمانية، ولكن الرئاسة تجاهلت الأمر برمته، رغم إبداء استعدادي الشخصي لتحقيق التوافق المطلوب من كل الأطراف حول الخطة الزمنية المقترحة لتنفيذ المبادرة المقدمة إلى رئاسة الجمهورية، وفضلت الرئاسة أن تقدم حلولًا مسكنة تضمن تسيير خطتها في إخراج دستور أبرز ما يعيبه المحافظة على طلبات القوات المسلحة من جهة والمؤسسة القضائية من جهة أخرى ومتشددي الإسلاميين من جهة ثالثة، بدلًا من أن تصل إلى توافق يدعم مطالب الثورة التغييرية.
(2)
لم تكن أزمة الإعلان الدستوري هي العقبة الوحيدة في تحقيق توافق بين قوى الثورة التي توحدت على عدم عودة النظام القديم متمثلًا في الفريق شفيق أثناء انتخابات الإعادة الرئاسية في يونيو 2012، فقد كانت هناك أزمة أكبر وهي المتعلقة بدستور الثورة المفترض.
أبدى حزب مصر القوية من البداية اعتراضه على طريقة المحاصصة التي شكلت بها الجمعية التأسيسية قبل نشأة الحزب، واعتبرها سيراً في المسار الخطأ؛ فتقسيم الجمعية وفق مقياس (إسلامي/ علماني) كان انحرافًا عن مسار الثورة ومقياسها، لذا كان من الطبيعي أن تهمل رموز وكفاءات مصرية مستقلة في هذه الجمعية التي ولدت معيبة، إلا أن الحزب، رغم ذلك، تعامل بإيجابية مع مسودات الدستور المتتالية التي أصدرتها الجمعية، وأبدى الحزب ملاحظاته وقدم مقترحاته وتواصل مع الجمعية ذاتها ورئاسة الجمهورية وحزب الوسط للوصول إلى صياغة معقولة تحافظ على أهداف الثورة التغييرية من جهة وعلى مساحة أكبر من التوافق من جهة أخرى، ولكن دون وجود أثر ملموس للملاحظات.
استجابت الجمعية التأسيسية لكل الطلبات المقدمة من مؤسسات الدولة العسكرية والقضائية إضافة إلى طلبات متشددي الإسلاميين، ولكنها لم تتعاط بأي شكل إيجابي -في المجمل- مع مقترحاتنا أو مقترحات القوى الشبابية أو الثورية المختلفة، فاستقرت الحال في النهاية على مسودة سمحت لأول مرة في تاريخ مصر بدسترة صريحة للمحاكمات العسكرية للمدنيين وبوصاية عسكرية على الحياة السياسية من خلال مجلس الدفاع الوطني ذي الأغلبية العسكرية الواضحة من جهة، وبسلطات واسعة لرئيس الجمهورية من جهة ثانية، وببقاء القضاء بوضعه من جهة ثالثة، وبنصوص مطاطة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمصريين من جهة رابعة، وبنصوص مطاطة لمواد الأخلاق لإرضاء السلفيين من جهة خامسة.
مر الدستور في النهاية على غير التوافق، مر من خلال شعارات مفتتة في عضد الثورة من قبل السلطة ومؤيديها وكذلك جبهة الإنقاذ، ومن خلال سيف الاستقرار الذي توهمه الكثيرون إذا تمت الموافقة على الدستور.
كان استفتاء الدستور بهذه الطريقة شرخًا آخر في مسار الثورة المصرية، ورغم ذلك سعينا بمبادرة من المستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية على التوافق حول تعديلات ضرورية تجرى على الدستور بعد انتخاب البرلمان؛ حرصًا على تجاوز الأزمة وجبر الشرخ الذي صار اتساعه خطرًا على الثورة كلها، إلا أن التعهد بإحداث التوافق المنشود على تعديلات دستورية ولو كانت بسيطة، لم يتم الوفاء به.
(3)
صارت مصر منقسمة إلى فسطاطين كبيرين، ولم تبد في الأفق أية بادرة للتقارب بين الفريقين؛ فالفريق الحاكم استمر في التحرك داخل دائرة مؤيديه فحسب، وفريق جبهة الإنقاذ اعتبر أن تحالفه مع فلول نظام مبارك مشروع بل مطلوب في مواجهة أعدائه التاريخيين.
استمرت الرئاسة في طريقها معتمدة على مساندة مفترضة من القوات المسلحة وقائدها العام، فلم تعبأ بنقد إيجابي ولم تسع إلى توافق جاد ورفضت تقديم أية تنازلات، فازدادت الأمور سوءًا وكثرت الاضطرابات، وزاد الأمور سوءًا أن الحكومة المعينة من رئيس الجمهورية لا تملك خطة ولا تقدم رؤى ولا تحسن خدمات، وأُغلقت كل السبل أمام كل من سعى لتحقيق توافق على حد أدنى من الطلبات، ورفضت رئاسة الجمهورية أن تغير حكومتها بل أن تغير حتى اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، رغم الانتهاكات التي حدثت في عهده.
كانت القاصمة حين تم تقديم القوانين المنظمة لعملية الانتخابات البرلمانية وبها عوار دستوري ظاهر بشكل يثير الشكوك حول أنها قدمت بهذا الشكل حتى تؤجل الانتخابات أطول فترة ممكنة (وهو عين ما يحدث الآن) في ظل تناقص شعبية حزب الرئيس في الشارع.
لم يعد هناك من حل سياسي مباشر أو غير مباشر لتلك الأزمة المستحكمة، جماهير بدأت في الاحتكاك في الشارع، ورئيس جمهورية عاجز عن حماية مقراته التي تمت مهاجمتها والتعدي على من فيها من خلال مجموعة من البلطجية المستأجرين تحت ستار سياسي، وتجاهل من قوات الأمن.
لم يعد هناك من حل سوى التوافق الوطني الشامل أو العودة للجماهير من خلال الصندوق الانتخابي لحسم الأمور؛ إما لصالح الرئيس وحزبه، وإما لصالح طرف جديد يسعى لتحقيق ما فشل فيه الرئيس المنتخب الأول.
كان الحل الثاني هو المقترح؛ بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء دستوري على بقاء الرئيس في منصبه من عدمه؛ نظرًا للعناد أو التربص البادي من الفريقين، وصار كل تأخير في الحل بصورتيْه يقربنا من سيناريوهين اثنين لا ثالث لهما: إما الفوضى الشاملة، وإما انقلاب عسكري صريح يهدم مكتسب ثورة يناير الوحيد، وهو القبول بالصناديق كمعبرة عن سيادة الشعب واختيار حكامه بشكل ديمقراطي.
وصلنا إلى الثلاثين من يونيو، وأصر كل على موقفه، زادت علامات الإنذار.. أصدر الجيش بيانه السياسي الأول، ولم ينتبه أحد لعمق الأزمة وتوابعها الكارثية؛ إما جهلًا بطبيعة المشكلة وانحيازًا مع الجهة الخطأ، وإما استرواحًا لرؤية تنظيمية قاصرة قائمة على اختيار “فليكن انقلابًا إذًا”.
تواصلنا مع كل الأطراف؛ مع الرئاسة، مع الإخوان، ومع جبهة الإنقاذ، ومع رئيس مجلس الشورى، بل مع وزارة الدفاع، ولكن دون جدوى، أصرت الرئاسة على موقفها الصفري، وقبلت جبهة الإنقاذ أن تكون معولاً في تسليم زمام الثورة لأعدائها.
حدث ما حذرنا منه في العلن وفي الغرف المغلقة، فقد أعلن وزير الدفاع تنحية الرئيس المنتخب دون الرجوع إلى الشعب، وصلنا إلى نقطة الخطر التي كنا نخشاها، فرح من فرح، وغضب من غضب، ولكن لم يستوعب أحد أن الأسوأ قادم.
رغم رفضنا الصريح لهذا الحل العسكري، وحتى إن كان مستندًا على رغبة شعبية، إلا أنها تبقى غير معبرة تعبيرًا يمكن الاطمئنان إليه بأنه يمثل إرادة الأغلبية، صاحب رفضنا لذلك الحل الاستجابة لدعوة النظام الجديد؛ حرصًا على حثه بالعودة للشعب مرة أخرى لحسم الخلاف باستفتاء على خارطة الطريق المعلن عنها، إلا أن الرغبة الحقيقية كانت “أن لا مكان للديمقراطية مرة أخرى”، وأن التفويض والحشد هما عنوان المرحلة الجديدة، نتيجة لذلك آثرنا عدم الاصطفاف مع السلطة الجديدة واستكمال اللقاءات معها.
(4)
أصبح الثالث من يوليو، عنوانًا لمرحلة جديدة قائمة على العصا الغليظة لكل المعارضين من جهة، وعلى الشحن والتخوين والتحريض ضد كل مخالف في الرأي من جهة أخرى.
أغلقت قنوات تليفزيونية بلا أحكام قضائية، ومنعت مقالات في الصحف، ونشرت مكالمات تليفونية خاصة لشباب ثورة يناير في انتهاك صريح لكل الأسس الدستورية والقانونية المصرية والعالمية، وفتحت السجون على مصراعيها بلا أية ضوابط ودون التزام بنصوص قانونية دستورية كانت أو غير دستورية.
عادت آلة القمع بأسرع ما يكون، أحرق مساجين في سيارة ترحيلاتهم وتم التستر على الفاعلين، صارت الانتهاكات البدنية في مخافر الشرطة وفي أقبية السجون أمرًا معتادًا ومألوفًا، ولم يعد الأمر مقتصرًا على انتهاك لأجساد الشباب، بل امتد لأجسام البنات في الشوارع وفي الأقسام دون رادع ولا ضابط، في سابقة لم تحدث من قبل، ولكن الأخطر فيما تمثله -الانتهاكات بحق الفتيات خصوصًا- من إثارة لاحتقان وغضب لا يمكن التحكم بهما أبدًا.
صارت أحكام الإعدام أمرًا مألوفًا دون حاجة لتقديم أدلة مقنعة على تهم كان كثير منها هزليًا، سجن آلاف بمحاكمات سريعة لا تفي بمقاييس بسيطة للعدالة، وغيب عشرات الآلاف دون محاكمة تحت وطأة مد فترة الحبس الاحتياطي.
أصبحنا نعيش حقًا في جمهورية الخوف، ولم يقتصر الأمر على فصيل دون آخر، بل امتد الأمر لكل المعارضين، من خلال تلفيق قضايا، أو من خلال الخطف والإخفاء القسري أو من خلال حملات تشويه ممنهجة قائمة على الاغتيال المعنوي لكل معارضي النظام أيًا كانت انتماءاتهم.
صرنا تحت أسر نظام الصوت الواحد الذي يتصرف في البلاد والعباد بلا رقيب ولا حسيب.
في المقابل، باتت تهديدات الإرهاب جدية، وصرنا عاجزين عن فهم ما يحدث في سيناء التي قتل فيها عشرات من جنود مصر بلا رحمة ولا حماية، وصار هناك توجه جديد للعنف ضد الدولة ومؤسساتها والمنتسبين إليها، وصرنا -كمصريين- محصورين بين مطرقة القمع وسندان الإرهاب.
هذا هو واقعنا المر بعد الثالث من يوليو، وحتى اللحظة.. دولة تحكمها سلطة واحدة وفرد واحد، وإرهاب وتكفير ينمو ويتغذى من قمع السلطة وديكتاتوريتها.
(5)
ما أسهل أن نعتبر أن الأمر انتهى، وأن نظام مبارك قد عاد في أسوأ صوره، وأن ننتظر خرابًا نراه محلقًا في الأفق في ظل سلطة عاجزة عن إدارة بلد بحجم مصر.
ما أسهل أن نشاهد حفلات البروباجندا المتتالية التي تهدف لخداع الناس بأوهام لا سند لها من واقع ولا من كفاءة ولا من قدرة، ما أسهل أن نضحك على فضيحة جهاز الكفتة، وما أسهل أن نشاهد مؤتمرًا اقتصاديًا كان نصيبه من الصور التذكارية أكثر من نصيبه من دراسات الجدوى الحقيقية أو من المشاريع الجادة المنشغلة بهموم سكان مصر المطحونين، ما أسهل أن ننتظر حفلة تفريعة قناة السويس التي لا نعلم عائدها المرجو حتى الآن، ما أسهل أن نتحسر على تردي الخدمات التعليمية والصحية والأمنية وغيرها وعجز الحكومة البالغ عن التعامل مع مشاكل مصر صغيرها وكبيرها.
ما أسهل أن نفعل كل ذلك، منتظرين مصيرًا لا يخطئ أبدًا إذا جاوز الظلم مداه وصار الأمر موسدا لغير أهله، ولكننا ما زلنا نراهن على صوت عقل يستفيق، فيحافظ على ما تبقى لنا من تاريخ ومؤسسات وشعب.
(6)
إنه في ظل الظروف الإقليمية بالغة السوء التي تمر بها المنطقة، وفي ظل الاحتقان البالغ الذي نعيشه في مصر سياسيًا بل اجتماعيًا، لم نعد نملك رفاهية انتظار نتائج فشل متوقع أو رغبة في انتقام.
مصر في حاجة فورًا إلى تقديم تنازلات من الجميع، أيًا كانت المخاوف، وأيًا كانت المظالم؛ فالمخاوف المحتملة أكبر بكثير من الحالية، والمظالم القادمة ستفوق الحاصلة.
لا تعني التنازلات المقصودة هنا، أن يُعفى عن قاتل أو أن يتم التسامح مع مجرم؛ فذلك متروك للعدالة لا ريب، ولكنها تعني أن نقدم المصلحة العامة على الخاصة، مهما كان عظم شأن تلك المصالح الخاصة، وتعني أن ننظر إلى المستقبل بأكثر مما ننظر إلى الماضي.
لا تعني التنازلات المقصودة أن نقبل باستمرار آلة القمع، أو أن نسمح بتمدد الإرهاب، ولكنها تعني أن نتوافق على إنشاء دولة قانون عادل يحكم الجميع بلا تفرقة ولا تمييز، وأن تصبح السيادة فيها للشعب دون وصاية من أي مؤسسة أو فئة كانت.
لقد آن لنا جميعا أن ندرك أن مصر على حافة منحدر عظيم، وأن من يجادل في ذلك إما أنه مغيب، وإما أنه صاحب مصلحة في استمرار تردي الوطن وانسحاقه.
(7)
إنني أعيد هنا طرح ما قد قدمناه من قبل، للنقاش حوله بعد تنقيحه وتعديله وفقًا للظروف الحالية، وللتباحث بشأنه من كل العاقلين المهتمين بمستقبل هذا الوطن وبكرامة أبنائه، مساهمة منا في دفع عجلة صارت تعود للخلف بأسرع مما نتخيل، فباتت أقرب للانحدار والوقوع في الهاوية، وذلك قبل فوات الأوان.
رؤية لحل الأزمة:
أولاً: تشكيل حكومة كفاءات انتقالية مستقلة:
•تعيين رئيس حكومة جديد على أن يكون شخصية توافقية مستقلة غير منحازة.
•تفويض رئيس الجمهورية في صلاحياته إلى رئيس الحكومة.
•نقل صلاحيات التشريع لمجلس الدولة، على أن تقتصر مهمة مجلس الدولة على تعديل القوانين المعيبة وعلى إصدار القوانين المتعلقة بتحقيق قواعد العدالة الانتقالية المتعارف عليها دوليًا.
•تمهيد الأجواء وتسهيل السبل وتذليل العقبات أمام تحقيق عدالة انتقالية حقيقية.
•إعادة هيكلة وزارة الداخلية وفق قواعد الحفاظ على حقوق الإنسان، وحماية مصر من مخاطر الإرهاب.
•التمهيد لانتخابات رئاسية مبكرة ومفتوحة خلال عام واحد.
ثانيًا: العدالة الانتقالية:
لن يكون هناك أمل في انطلاقة صحيحة نحو المستقبل دون تضميد لجراح الماضي، جراح الآلاف الذين سقطوا بين شهيد ومصاب دون محاكمة عادلة وشفافة للمتهمين بقتلهم، ودون تمييز بين مصري وآخر، ودون محاباة لصاحب سلطة سابق أو حالي، عدالة انتقالية تفتح باب مصالحة شاملة قائمة على العدل الذي قد يقبل بالتسامح والتعويض القائم على الرضا لا القهر والجبر، على أن يصاحب ذلك تشكيل لجنة قومية مستقلة للعدالة الانتقالية مكونة من قضاة وأساتذة قانون وعلوم سياسية واجتماعية مستقلين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، على أن تعطى هذه اللجنة كل الصلاحيات والإمكانات للتحقيق والبحث حول كل ملفات القتل والتعذيب والانتهاكات طوال الفترة الماضية.
ثالثًا: الحقوق والحريات:
•الإفراج الفوري عن كل المحتجزين تحت الحبس الاحتياطي غير المدانين في قضايا الإرهاب والقتل.
•الإفراج الفوري عن الطلاب والسيدات وكبار السن وذوي المشاكل الصحية الواقعين تحت الحبس الاحتياطي.
•مراجعة جادة لكل الأحكام الصادرة بحق المحكوم عليهم خلال الفترة الماضية.
•الإفراج عن أو إصدار عفو عام عن قيادات كل التيارات المعارضة التي لم يثبت بدلائل واضحة معلنة تورطها في أي جريمة.
•الفصل السريع والفوري في الإجراءات التعسفية؛ مثل المنع من السفر والتحفظ على الأموال دون سند قانوني بات، ووقف كل إجراءات انتهاكات الحياة الشخصية وتفعيل مواد الدستور الحافظة للحريات الشخصية، والمحاسبة العاجلة لكل من ينتهك هذه الحريات.
•تقليل دوائر الاشتباه، والإفراج الفوري عن المسجونين غير المتهمين بجرائم فعلية، مع الوقف عن العمل لكل الأفراد المتهمين بانتهاكات حقوقية بحق المواطنين الأبرياء في سيناء وفي غيرها.
•المحاكمة السريعة والناجزة لكل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان سواءً في السجون أو في أقسام الشرطة، أو في قتل أو إصابة متظاهرين سلميين.
•محاكمة كل من تورط في التنصت على مواطنين أو نشر مكالماتهم الخاصة في وسائل الإعلام المختلفة.
رابعًا: الإعلام:
تفعيل ميثاق الشرف الإعلامي؛ بالاتفاق بين وسائل الإعلام والأحزاب والمجتمع المدني والحكومة بشكل متوازن يحافظ على الحريات ويمنع من بث الكراهية أو التحريض، بما لا يسمح بفرض رقابة حكومية على وسائل الإعلام أو تقييد لحرية التعبير، مع مراقبة قضائية ومجتمعية لأي أداءات إعلامية تحض على الكراهية أو القتل أو الإرهاب واتخاذ إجراءات قانونية عاجلة بشأنها، كأمر لازم لتحقيق عدالة انتقالية قائمة على المصالحة المجتمعية.
خامسًا: التشريع والرقابة:
•التوقف التام عن إصدار قوانين في ظل غياب مجلس النواب، ووقف العمل بكل القوانين المخالفة للدستور ولمواثيق حقوق الإنسان، مثل قانون التظاهر وقانون مد الحبس الاحتياطي وتعديلات قوانين الجنايات وغيرها.
•إقامة حوار جاد حول قانون الجمعيات الأهلية بما يتيح حرية العمل الأهلي بلا قيود، على أن يكون القانون مبنيا على حرية التنظيم وحرية المجتمع المدني دون وصاية تنفيذية مع رقابة شفافة على التمويل.
•التوافق على قوانين منظمة للعدالة الانتقالية وفق التجارب الدولية في هذا المجال.
•إلغاء عقوبة الإعدام فى الفترة الحالية.
سادسًا: سياسة الإدماج:
بناء أي نظام ديمقراطي حقيقي يتطلب دمج كل التيارات المتواجدة فيه والقبول بها كلاعب سياسي، طالما اتفق الجميع على شروط العمل السياسي وتداول السلطة، على أن يكون هذا الدمج قائمًا على القبول بالآتي:
•العمل السلمي.
•العمل العلني.
•الالتزام بالدستور و القانون.
•عدم الخلط بين العمل الدعوي والعمل الحزبي.
•عدم السماح بخطاب تحريضي أو طائفي.
•حياد مؤسسات الدولة الرسمية، وعدم مشاركتها في العمل الحزبي بشكل خاص أو السياسي التنافسي بشكل عام.
أخيرًا، فهذه مجرد رؤية قابلة للنقد والتعديل والتنقيح، ولكنها تحتاج -قبل النظر فيها- أن ينظر إلى الحال التي وصلت إليها مصر، وإلى المستقبل الذي قد ينتظرها في حال استمرار أوضاعها المتردية الحالية، حتى تتسع الرؤية وحتى ننقذ ما يمكن إنقاذه.
“إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وعليه أنيب”.