تابعنا مع الكثيرين ولا زلنا نتابع أصداء الخلاف بين قيادات جماعة الإخوان المسلمين السابقة والحالية، الذي وصل إلى حد النزاع حول شرعية القيادة الحالية للجماعة، بعد أن طالب السابقون بأحقيتهم في استكمال المهمة إلى النهاية، نهايتهم أو نهاية الجماعة نفسها أيهما أقرب.
كتبت عشرات المقالات في تحليل الصراع على السلطة في الجماعة، والتي اهتمت بشكل رئيس بتحديد الأطراف الفاعلة ودور كل منهم، وعناصر القوى والضعف لديهم، وإظهار الاختلاف في الرؤية بين الجناح المحافظ الذي لا يزال يدعي أن السلمية خيار إستراتيجي للجماعة ويجد في ميل القيادة الجديدة للجماعة نحو العنف، خطورة على التنظيم نفسه قبل خطورتها على الدولة التي لا زالت الجماعة ترى نفسها وريثًا شرعيًّا لها.
رغم قدرة الجماعة على التلاعب بالمواقف السياسية خلال السنوات الخمس الأخيرة، والانتقال من معسكر إلى آخر ومن حليف إلى غيره بسلاسة ويسر دون النظر إلى ما قد يسببه ذلك من خلل في رؤية شباب الجماعة واستيعابهم لإستراتيجية القيادات، معتمدين في ذلك على قاعدة السمع والطاعة التي سوف تجبر الشباب على الانصياع خلف قياداتهم.
ولكن يبدو أن استهلاك هذه القدرة لدى الجماعة حرمت عبد الرحمن البر ومحمود حسين من كبح جموح الشباب نحو العنف والانتقام وحثهم على التمسك بالسلمية، فالمقالات التي كانت تشكل وعي شباب الجماعة ومرجعيتهم أصبحت مثارًا للسخرية والانتقاد.
ربما لا يدرك شباب الجماعة وكوادر الداخل من الموتورين خطورة انتهاج الجماعة للعنف، ولكن القيادات لا سيما الصف الأول القابع في السجون يعلم جيدًا أن درب العنف لن يفضي إلا إلى تفكك الجماعة وتحلل هيكلها التنظيمي وتحولها إلى مليشيا تأخذ طورها الهرمي في النمو ثم تنحدر باتجاه الموت والاندثار.
بقاء الجماعة واستمرار دعوتها أهم من وجود الجماعة على رأس السلطة وأهم من بعض الحيوات على هامش التنظيم وبين صفوفه، كما أن استقلال القرار الإخواني وفقًا لمصالح الجماعة في المقام الأول خط أحمر لا يجوز المساس به، فالجماعة تتحالف مع دول وتحظى بدعم حكومات ولكن تحرص على الشعرة بين التحالف والتبعية، فلن تقبل الجماعة أن تكون ذراعًا لتركيا أو لقطر في مصر وإن تماهت مواقفها مع رغبات تلك الدول.
وتظل مبادرات الجماعة والمتحلقين حولها تبرز الفجوة بين رؤية الشباب واندفاعهم ورغبة الأغلبية الكاسحة من إخوان الداخل في الانتقام مدعومة بإعلاميين وكوادر مقربين من حكومات تركيا وقطر، وحكمة شيوخ وكهول التنظيم القابعين في السجون وورثتهم في الخارج المتمسكين بشروط اللعبة القديمة وقواعدها.
ربما تقوم الجماعة برعاية مجموعات على هامش التنظيم تمارس العنف ضد الدولة، ولكن دائمًا في الوقت المناسب تتخلى الجماعة عن تلك المجموعات ولا تجد غضاضة في التضحية بهم في الوقت المناسب قبل أن يتصاعد غضب الدولة، وقبل أن تستشري دعوتهم بين أبناء التنظيم، ولا تمارس الجماعة العنف بنفسها وتجاربها في ذلك كانت مؤلمة وفاشلة تمامًا، ليس لخسارتها أمام الدول التي تمارس العنف ضدها، ولكن لخسارتها أمام تنظيمات أكثر راديكالية في استخدام العنف وشرعنته وكانت تجربتهم في العراق وسوريا خير دليل.
لذلك فكل المبادرات التي انطلقت من الجماعة منذ إزاحتهم عن الحكم ثم المذبحة في حق أنصارهم في رابعة، ترتبط بثقافة قيادات الجماعة وتتناسق مع مواقفهم السابقة وإن ظهرت مختلفة، فكل بيان خرج يدعو إلى تراجع الجماعة خطوتين إلى الوراء ومحاولة التقريب بين العديد من أطراف اللعبة بخلاف قيادة الدولة، يمشي على نفس خطى الجماعة، من تأييد بيان بروكسل والدعوة للاعتذار عن أخطاء الماضي وتقريب المجموعات الثورية المعارضة للنظام الحالي والمتحفظة على التنسيق مع الجماعة، وحتى بيان يوسف ندا الأخير.
في الوقت الذي تعمل بعض قيادات الجماعة على إنهاء ملف المصالحة مع الدولة المصرية عبر الوسيط الخليجي أو السعودي على وجه الدقة، ويتحرك الغنوشي وأيمن نور دوليًّا لإنهاء أزمة الجماعة واستصدار فرمان من الباب العالي لممالك آل سعود إلى تابعيه في مصر لإنهاء الأزمة، وبينما يعد أطراف آخرون وثيقة للمصالحة مع القوى السياسية الداخلية في مقدمتها الحركات الثورية والشباب المرتبطين بها، لا زال إخوان الداخل يتحدثون عن التأصيل الشرعي لانتهاج العنف وبيان نداء الكنانة.
رغم سرية كل الخلافات بين قيادات الجماعة السابقة والحالية إلا أن بيان نداء الكنانة الذي حمل دعوة صريحة لانتهاج العنف من أبناء التنظيم، كان شرارة اشتعال الخلاف بين ورثة الشيوخ والقيادة الجديدة المنتخبة، وحرب البيانات بين الطرفين.
حتى حسم الصراع مؤخرًا برسالة المرشد العام من معتقله يدعو كوادر الجماعة إلى الحفاظ على السلمية كنهج تاريخي للجماعة، وعدم الانجرار إلى العنف ضد الدولة، معلنًا تمسكه بشعرة معاوية التي تحرص الجماعة عليها حرصها على التنظيم نفسه.
يبقى أن ننتظر خلال الأيام المقبلة رد فعل قيادات التنظيم وجمهوره على رسالة المرشد، وأثرها في لم الشمل وإعادة التئام الجروح وجبر الصف المكسور، أو تزيد من الانقسام والفرقة فتحسم مسألة شرعية القيادة ميراثًا لا انتخابًا.