أقر بداية أننا – كسلطة وفصائل وشخصيات وطنية – نفتقد الشجاعة لقول الحقيقة بشأن سياسة مصر تجاه قطاع غزة، وغالبًا ما نهرب إلى التعويم والتعميم .
وحينما تقرر الفصائل إصدار بيان خاص بالمعبر “بتلف مائة لفة ” من أجل أن تخرج بمناشدة خجولة تطفح بكلمات المدح والإطراء..!!
لكن حينما نختلي بأنفسنا نفرغ بحورًا من الحزن والغضب والإحساس بالظلم ..
نريد لمصر أن تسمع صوتنا (المكتوم) الحقيقي ..صوتنا الحار المشبع بالمعاناة والغضب..
هل تولدت لدينا قناعة بأن مصر لا تتحمل من ينتقدها ولو بشق كلمة ؟
هل بتنا نخشى أن تدرج أسماؤنا على قوائم الممنوعين من السفر ؟
هل أصبحت المجاملة هي سيدة الموقف في تحديد خطابنا مع مصر ؟
دائما ما نسمع المقولات والخطابات المؤثرة ” مصر الشقيقة ..مصر بعدنا القومي والاستراتيجي ..مصر التاريخ ..مصر التي نحبها ..مصر عبد الناصر”, لكن اصارحكم بعد كل هذه الخطابات الجياشة المتوددة لم يتغير شيء ,وظلت المعاناة تكبر وتكبر حتى صارت مثل الجبل !!
مصر تذكرنا دائما بأنها “حاضنة القضية ” وانها روت تراب فلسطين بدماء جنودها وانها لن تتخلى عن مساندتنا والوقوف الى جانبنا .
وما بين خطابنا وخطابهم هناك واد كبير مليء بكثير من الالم والحزن والمعاناة ..
غزة تعيش حزنين ..ألمين ..ومعانتين, لكنها بقلب واحد !!
لسنا بحاجة الى الترديد أن مشكلتنا الرئيسة هي مع الاحتلال الاسرائيلي لأنه عدونا الاوحد , لكن لدينا مشكلة مع شقيقتنا مصر لابد من حلها على قاعدة الصراحة والتفاهم ..لا على قاعدة المناكفة او تصيد الاخطاء .
مشكلتنا مع مصر تتمحور في نقطتين :الاولى / الموقف السياسي من القضية الفلسطينية والنظرة الامنية لقطاع غزة , الثانية : معبر رفح .
سأتحدث عن المشكلتين لانهما مرتبطتان , ولانهما جرح يومي مؤلم ونازف لكل فلسطيني.
على معبر رفح تتجلى صورة المأساة الفلسطينية بكل صورها وأبعادها ..
الالاف ممن تقطعت بهم السبل .. المرضى/الجرحى الذين يموتون ببطء وهم ينتظرون على البوابة ولا يرف لهم قلب .. الطلاب الذين فقدوا فرصة العمر في مقعد دراسي .. المئات من العائلات التي تمزقت ..
يوم يفتح المعبر ليوم او يومين بعد شهور من الاغلاق تجده كيوم القيامة من الزحام والصراخ ..تجد الناس ينقبون عن “ثقب” للمرور من هذا السجن ,لكن يعود أغلبهم بأحمال الهم والحزن الى حين فتحه مرة أخرى.
انها سلسلة حزن مؤلمة ومبكية ؟؟ ومع ذلك نخجل أن نقول للاخوة المصريين “هذا ظلم ” .
في فمنا ماء
نعم في فمنا ماء !!
افتقدنا الشجاعة أن نصرخ “كفى لهذه المعاناة التي عصفت بكل بيت .
كتمنا كل هذا الغضب والالم والحزن في قلوبنا , سنوات وسنوات .
نحزن ونغضب حينما نقارن بين المعبرين ..
نجد انه دخل وخرج من معبر بيت حانون(ايرز) في شهر مايو فقط (نحو 34 الف ) ما يعادل ما خرج من معبر رفح في ثلاث سنوات أو اكثر !!.
نسأل انفسنا وبصمت وحزن: لماذا يفعل بنا اخوتنا المصريون هكذا ..أي جرم اقترفناه حتى نعاقب بهذه الصورة القاسية …اليسوا هم اخواننا في الدين والعروبة والجيرة ..اليسوا هم منفذنا الوحيد الى العالم ؟ أين نروح ؟ يزداد حزننا وألمنا حينما نسمع المسئولين المصريين يقولون لنا ” لكم خمس معابر ..اذهبوا فتشوا عنها “!!
هل فقدوا الاحساس بنا لدرجة أنهم تركونا نختنق في هذه الزنزانة الضيقة بدون هواء ..
اذا كان لمصر مشكلة سياسية مع حماس فليس من المنطق الانساني أن يُعاقب مليوني مواطن . المبرر الامني ليس مقنعا لابقاء هذه المأساة الانسانية مفتوحة بلا حل وبلا أفق ؟
بين الماضي والواقع
دائما يذكرننا اخوتنا في مصر بانهم قاتلوا ودفعوا من دماء جنودهم لاجل قضيتنا ..وهذا ما لا ننكره ونضعه على رأس كل فلسطيني احتراما وعرفانا , لكن نقول لاخوتنا في مصر : انكم تتحدثون عن ماض مضى عليه نحو خمسين عاما , لكنا نتحدث عن واقع اليوم المرير والمؤلم……..
في عهد مبارك (31 عاما), شبعت فيه اسرائيل اجراما وقتلا .. غزت بيروت وطردت منظمة التحرير وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا ولم نجد من يقف الى جانبنا ..
ثم خضنا الانتفاضتين وفقدنا عشرات الالاف من الشهداء والجرحى ولم نجد من يسمع صراخنا..
حاصروا الرئيس الشهيد أبو عمار في المقاطعة ولم يجد من يتصل به أو ينقذه من جنون الدبابات ..
ثم كانت الحروب الثلاثة على غزة والتي مثلت قمة الاجرام البشري من قتل الاطفال والنساء وتدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها ولم نجد من يستجيب لاستغاثتنا ..
سرق الاحتلال ارضنا وبنى عليها مئات المستوطنات .. ضاعت القدس من بين ايدينا وضاعت صرخاتنا لانقاذها من بين براثن التهويد ..
وجيراننا يتفرجون علينا ..
في ذروة صراخ اطفالنا ونسائنا تحت القصف والموت لم نطلب من مصر ان ترسل جيشها ليقاتل الى جانبنا ..
ولم نطلب ارسال دباباتهم التي تقف على حدودنا لتمنع دبابات الاحتلال من قتل اكثر من 176 مواطنا في رفح (الجمعة السوداء ) خلال اقل من ساعة ..
لم نطلب دخول مواد اغاثة ..ولم نطلب سيارات اسعاف.
قلنا : نعتصر دماءنا وندفن شهداءنا بصمت.
ظللنا نسبح في دمائنا ونغوص في اشلائنا وبقايا بيوتنا خمسين يوما .. كان الموت يزعق في كل مكان ..
جارتنا مصر كانت تسمع صوت القذائف تنزل على رؤوسنا ..وترى من خلف الجدار بيوتنا واشلاء اطفالنا تتطاير في الهواء .
نحن المذنبون !
ورغم كل هذه المآسي, ورغم صمتنا , وجدنا أنفسنا في مصر مذنبين ,مجرمين ,قتلة .. فنحن الذين أخرجنا الاخوان من السجون ..ونحن الذين اطلقنا النار في ميدان التحرير ..ونحن الذين هربنا المئات من السلفيين والجهاديين واطنان المتفجرات الى سيناء ….ونحن الذين نفذنا العمليات ضد الجنود.. ونحن السبب في مشكلة الكهرباء وغلاء اسعار اللحوم .. ونحن الذين حولنا رئيس الجمهورية الى “متخابر “…ونحن الذين خططنا مع اسرائيل وقطر وتركيا لاقتطاع جزء من سيناء لاقامة دولة “عظمى” تمتد من بيت حانون الى العريش ( كما يكرر رئيسنا دائما) وسعينا للحصول على اعتراف أممي لكن للاسف لم نفلح !!
ثم تحولنا الى ارهابيين (بالامس نقضوا حكم المحكمة).. وحكموا على معتقلينا وشهدائنا بالاعدام .. ثم منعونا من السفر وأبقونا محاصرين في مسافة لا تزيد عن اربعين كيلومتر !!
ثم طالبوا بضرب غزة الجريحة بالطائرات والدبابات ..
ثم قالوا لنا “ممنوع عليكم الشكوى ..ممنوع عليكم حتى البكاء !!
سلخوا جلدنا في الاعلام حتى صورونا مجموعة من الذئاب المتوحشين مصاصي الدماء , ويشهد الله أنه لم تنزل قطرة دم مصري على يد فلسطيني …
اصبح الفلسطيني يخاف أن يعرف عن نفسه في مصر الكنانة ..
اصبح مرعوبا من ذكر انه من غزة .
الهذه الدرجة اصبحنا مرفوضين منبوذين ؟؟؟
فليعاقبوا حماس !
المحزن أكثر ان اخواننا في السلطة وبعض قيادات فتح (ركبوا الموجة ) وسلخوا جلدنا بلغة التبرير والتملق القاتلة التي تبرر لمصر اتهامنا وظلمنا ..يهرفون بما لا يعرفون ..يكذبون ..يتملقون !!
في كل زيارة لمصر, تعود ابو مازن بان يجامل الاخوة في مصر على حسابنا ,وأصبح يتلذذ بتكرار تصريحات مسيئة لحماس امام (الاهرام) و(اليوم السابع) ومصطفى بكرى , بل منح هذا ال(….),توفيق عكاشة, وساما لانه حول كل ابناء قطاع غزة الى مجرمين وقتلة وطالب الرئيس السيسي بشن غارات جوية على غزة!!
ما يقطع نياط القلب ان الامن في رام الله ساهم في تشويه صورة القطاع في مصر من خلال عشرات التقارير المكذوبة والمضللة التي أرسلت الى الامن المصري , والذي اضطر أخيرا أن يقول للامن الفلسطيني ان 99% من تقاريركم بشأن حماس وغزة غير صحيحة !!
اذا كانت حماس مخطئة فليعاقبوها على أخطائها, لكن ببراهين وأدلة ,وليس بصخب القول ولا جعجعته.
لكن دعوني اصارحكم :المشكلة ليست في حماس وحدها !!
هل سمعتم ان احدا من حماس او من مواطني غزة قدمت ضده لائحة اتهام في كل ما يحدث في مصر؟؟
هل سمعتم ان فلسطينيا او حمساويا اعتقل في مصر بتهمة المس بالامن؟
هل قدمت مصر لحماس او حتى للسلطة الفلسطينية دليلا واحد (وأصر على دليل واحد ) يثبت تورط حماس في اي من احداث مصر ؟؟
لدى الكثير من الانتقادات على تصريحات وسلوكيات خاطئة صدرت عن بعض قيادات حماس في بداية الاحداث في مصر والتي تسببت في خلق مفاهيم سلبية لدى السلطات المصرية , لكني اشهد شهادة قاطعة ,من باب علمي ويقيني, ان حماس لم تفكر ولم تخطط , بل ولم يخطر على بالها يوما ان تقوم بشيء ضد مصر وامنها (وهذا موثق بقوة عند المخابرات العامة), بل ما حدث هو العكس تماما ,ان حماس بذلت جهدا كبيرا لضبط الحدود ومنع تسلل المتطرفين, وألحت–طوال عامين – على الجانب المصري ان يقدم لها اسم اي متهم او مشتبه به لكن دون رد !!
أشهد أن حماس لم تتخابر يوما مع الرئيس مرسي ..
ولم تنسق مع الاخوان في مصر لاي نشاط أو فعل ضد مصر وأمنها .!!
كلما أقسمت الالاف الايمان أنها لا تتدخل في شئون مصر ,أجابوا “عنزة ولو طارت” ..يجب عليكم أن تثبتوا أنكم لا تتدخلون !! رغم ان الرئيس وحركة فتح تدخلوا بشكل فج حينما انحازوا الى طرف دون اخر وتماهوا مع السلطة في مصر الى ابعد حد (وهناك المئات من التصريحات والتصرفات التي تثبت ذلك).
فلنصحح المسار
هذه العلاقة المأزومة المتوترة لابد من معالجتها بشكل مهني يفضي الى وضع الامور في نصابها.. لا يصح أن تستمر على هذا النحو لانها خاطئة ,مرهقة ومؤدية الى أوضاع كارثية. مطلوب ان تستقر هذه العلاقة على قاعدة الثقة والتفاهم والاحترام.
لا نجامل اذا قلنا اننا نحب مصر وشعبها من صميم فؤادنا..ونكره لهم الاذى والضررونحزن كثيرا لما أصابهم ..
ولا ندعي اذا قلنا اننا لا نتدخل في شئون مصر , وليس من مصلحة احد ان يفعل ذلك.
ولا نتملق حين نقول اننا نحترم ارادة وخيارات الشعب المصري.
ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان حماس ليست عدوة لمصر ولا تشكل تهديدا لها.
مطلوب من الجميع (مصر,السلطة,حماس) العمل بجدية لتصحيح هذه العلاقة بما يضمن مصلحة فلسطين ومصلحة مصر معا.
مطلوب من مصر أن تتحرك تجاه قضية فلسطين بصورة أكثر فعالية وقوة وأن تقوم بدورها التاريخي في محاصرة خطورة اسرائيل ومخططاتها الاحتلالية,لانها عدوها الاوحد في المنطقة .
مطلوب من مصر أن تتحرر من “النظرة الامنية ” لغزة,وتتأكد أنها لا يمكن أن تمثل تهديدا لأمنها ولا استقرارها ,بل هي سند وقوة لمصر وشعبها.
مطلوب من مصر خفض جناحها لأهل غزة, فتفسح لهم طاقة في هذه الزنزانة الضيقة وتفتح لهم المعبر وتسهل حركة الناس وتنفض عنهم كل اثار الالم والمعاناة ..
مصر لن تخسر شيئا اذا فتحت المعبر بصورة توازن بين متطلباتها الامنية وحاجة القطاع للتنفس . .لا يجب ان يظل “السيف” الامني مشرعا دائما كحجة لاغلاق المعبر.
حماس مطلوب منها أن تكون أكثر اتزانا في خطابها الاعلامي وأن تبتعد عن (الشبهات) التي يمكن أن ترسم صورة خاطئة تربطها بأي جماعة مصرية , فهي في الاصل حركة وطنية فلسطينية تنتمي الى جماعة الاخوان .
من المهم ان تراجع حركة حماس سلوكها السياسي بما يضمن السير على حبل التوازنات في الحالة العربية المضطربة .
السلطة الفلسطينية مطلوب منها الا تثير العداء بين حماس ومصر بسبب الخلاف السياسي لانه لن يصب في مصلحتها ولا في مصلحة الوطن .خلافاتنا الداخلية يجب ان تبقى حبيسة ادراجنا ولا يصح نشر غسيلنا امام الناس . يجب أن تتحمل السلطة المسئولية الوطنية وتدافع بشجاعة عن معاناة غزة وان تصر على فتح المعبر مهما كانت الخلافات عميقة مع حماس , بدون خجل وبدون مجاملة أو مواربة.
آمل أن أكون قذفت حجرًا في المياه الراكدة .