يغرق معارضو الانقلاب العسكري في مصر ببحار الكلام عن ذكرى نكسة يونيو 1976، بعضهم يجترها شماتة في النظام العسكري الذي انهار وتبخر أمام العدو في ساعات، وآخرون لكي يقولوا إن تداخل الجيوش في السياسة يؤدي لهزيمة الاثنين معا. مرة أخرى، الجميع محبوسون في رغبات الانتقام الماضوي، من دون أن يفكر أحد في أن يعفى التاريخ والحاضر والمستقبل معا من هذه المناكفات الصغيرة.
حسنا، إذا كان لا بد من الاشتباك حول الماضي، فلنبدأ بالماضي الأقرب، ونتدبر في النكسة التي أصابت ثورة يناير 2011، حيث يصادف اليوم ذكرى استشهاد خالد سعيد، أيقونة الثورة، والذي يأتي بينما يطالب محامي حبيب العادلي بتعويض لوزير الداخلية التي اندلعت ضده وضدها الثورة، ويطلب من المصريين الاعتذار له. هل هي تراتيب وتدابير القدر، أم أنهم يختارون تواريخهم بعناية؟ هل هو دهاء التاريخ أم انتقام مالكي البلاد في اللحظة الراهنة من الذاكرة الثورية؟
الأوغاد دائما بارعون في اصطياد الأيام من الذاكرة وذبحها ونتف ريشها وتقديمها مشوية لأجيالهم وأجيالنا الجديدة.. هل كانت مصادفة مثلا أن يكون 15 مايو يوم إعلان قيام إسرائيل 1948، هو يوم انقلاب السادات على خط جمال عبد الناصر 1971، لكي يبدأ فيما بعد جر مصر والأمة العربية كلها، إلى طريق التفاوض والتطبيع مع العدو الصهيوني؟
في مثل هذا اليوم من يونيو 2011 كنا جميعا غارقين في تفاؤلنا، بمستقبل ثورتنا البيضاء البريئة، حد السذاجة، فكتبت “اليوم ذكرى خالد سعيد أو بوعزيزي مصر الذي كان مقتله على أيدي مخبري قسم سيدي جابر الشرارة الأولى التي اندلعت فأشعلت روح الثورة.. ذهب حسني مبارك وحبيب العادلي وسقطت دولة المخبرين وغاب السباعي أحمد السباعي، بينما بقي خالد سعيد حيا بابتسامته الرائعة وملامحه الطفولية في قلوب كل المصريين الشرفاء.
من كان يتصور أن يأتي هذا اليوم بهذه السرعة.. اليوم الذي يهزم فيه خالد سعيد قاتليه وجلاديه من المخبرين والكتبة الذين وصفوه دون أن تهتز ضمائرهم أو تقشعر جلودهم بأنه «شهيد البانجو»؟
انظر حولك وتدبر: مَن الحي ومن الميت؟ خالد سعيد أم قاتلوه والذين مثلوا بجثته وسمعته على صفحات المطبوعات الغارقة في رذيلة الكذب والنفاق؟
طبعا لو قرأ حبيب العادلي هذه السطور الآن سيدخل في نوبة ضحك هيستيري، لأن الواقع يقدم إجابات مفرطة في عنفها عن تساؤلاتي الساذجة، فقد عاد العادلي ومبارك وكل رجالهما، بينما الآلاف من خالد سعيد غابوا، وغيبوا، بطرق تعذيب أبشع كثيرا مما كان، الصحافة التي نهشت جثة خالد سعيد ميتا، عادت تنهش في آلاف منه، أحياء وأمواتا، بينما رفاق خالد سعيد، الذين انتفضوا لموته، وصنعوا من رحيله أسطورة للنضال والثورة، مشتبكون الآن فيما بينهم، يمزقون ثيابهم بأيديهم، ويبددون طاقات الغضب في صراعات مع التاريخ البعيد. يحدث كل ذلك بينما الأوغاد يحكمون قبضتهم على الحاضر، ويخنقون المستقبل.
سيرد أحدهم بأن والدة خالد سعيد نفسها، وأسرته، كانوا ضمن من نادوا على الأوغاد كي يعودوا، وينتقموا منه مجددا، لكن من قال إن “الأيقونة” يمكن أن تكون ملكية خاصة؟
مرة أخرى: من يتابع حروب الفضاء المشتعل بالكراهية والغل وروح الثأر والتشفي بمناسبة ذكرى نكسة يونيو 1967 لا يمكن أن يتصور أبدا أن هذا شعب يريد الانعتاق من كراكيب الماضي، بحلوه ومره، خيره وشره، والقفز إلى مستقبل محترم.