من الخطأ النظر إلى «عاصفة الحزم» كمجرد عملية عسكرية سعودية عابرة ضد الحوثيين. إنها سياسة سعودية تجمع بين الديبلوماسية والحرب لوقف ثم دفع النفوذ الإيراني خارج شام السعودية ويمنها. قيل ذلك غير مرة. ولكن أين ستتوقف هذه السياسة الخطرة وهل لها حدود حمراء، ثم إلى أي مدى ستقبل إيران هذه الصفعات السعودية المتتالية عليها في الشام واليمن، وما هو موقف الدول العظمى منها؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ستساعد في الإجابة عن سؤال «هل ستقع حرب بين السعودية وإيران؟» ولكن هل يستحق التغول الإيراني في المنطقة هذه المخاطرة والتي تكلف المملكة الكثير مادياً، مع خطر حرب مفتوحة مع إيران؟ أعتقد أن معظم السعوديين سيجيبون بنعم، ولكن لنستمع إلى محلل كفوء مثل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق والسياسي العتيد وكيف يرى الصراع بين البلدين. يقول في كتابه «نظام العالم»، الذي صدر العام الماضي قبيل «عاصفة الحزم» والتحول الهائل في السياسة السعودية، «الصراع مع إيران بالنسبة إلى السعودية وجودي، إنه يشمل استمرار المملكة، وشرعية الدولة، وبالتأكيد مستقبل الإسلام».
وعلى رغم أن المملكة لا تمارس سياسة عدوانية أو اقتحامية تجاه إيران ودائرة مصالحها الاستراتيجية، فإن الإيرانيين يتصرفون كما لو أن التوصيف الذي استخدمه كيسنجر يسري عليهم أيضاً، فالرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي كان عراب الانفتاح السعودي – الإيراني في التسعينات وبدا «صديقاً» للمملكة، أدلى بتصريحات ضدها الأسبوع الماضي لا تقل حدة عن أي متطرف إيراني في «الحرس الثوري»، بينما هدد قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني بطل المغامرات الإيراني في العالم العربي بمفاجآت يعدها جيشه «والقادة العسكريون السوريون (كان عليه أن يقول من تبقى منهم) خلال الأيام القليلة المقبلة»، فما الذي في جعبتهم؟ هل سيقومون بإنزال بحري في الساحل السوري لحمايته من تقدم الثوار أم إرسال فرقة كبيرة من الجيش الإيراني هناك لحماية الدويلة العلوية التي يريدونها موطئ رجل لهم في «شامنا»؟ لا أعرف ما هو الرد العسكري السعودي على حماقة كهذه، ولكنني متأكد أن المملكة ومعها تركيا ترفضان وفي شكل قاطع أي وجود إيراني مباشر هناك أو تقسيم لسورية، وبالتالي يمكن اعتبار «مفاجآت سليماني» إحدى نقاط التماس التي قد تؤدي إلى مواجهة مباشرة سعودية – إيرانية، تضاف إلى نقطة تماس اليمن، وثالثة تلوح في الأفق البعيد في الموصل.
وكذلك لن تقبل المملكة أي موطئ قدم لإيران في اليمن ولو كان على مساحة صعدة وحدها، وهذا يفسر الموقف السعودي حيال المفاوضات الجارية. موقفها بكل بساطة، ليعش الحوثيون كيفما أرادوا في بلادهم، ولكن يستحيل أن تقبل بهم قوة مهيمنة على الحكومة المركزية هناك والتي لا بد أن تكون تعددية وتشاركية.
السعودية لا تريد بالتأكيد مواجهة مفتوحة مع إيران لإدراكها كلفتها الباهظة، وكذلك إيران لنفس السبب، ولمعرفتها وعن تجربة، أن الميزان العسكري خصوصاً في سلاح الجو ليس في مصلحتها، كما أن المملكة تتميز عن إيران بتحالفها مع عدد من الدول العربية والإسلامية مستعدة للدفاع عن بلاد الحرمين، ولكن لدى البلدين أيضاً من الأسلحة ما يكفي لتدمير قدراتهما معاً، وبقدر ما في هذا من تهديد مشترك فإنه أيضاً عامل ردع مهم.
إيران تفضل «الحرب بالوكالة»، ولكن هذه الحروب لم تعد تماماً «بالوكالة»، بعد «عاصفة الحزم» واقتراب البلدين من نقاط تماس خطرة، فحلفاء إيران في اليمن يتعرضون ليل نهار لحرب تقودها المملكة ضدهم حتى يجنحوا للسلم، والشفرة اقتربت من رقبة حليفي إيران في سورية ولبنان، وحان الوقت أن تتخلى عنهما بصفقة ما أو تنفذ ما وعد به قاسم سليماني من «مفاجآت».
كما يجب أن تعلم إيران أن السعودية لن تتراجع عما بدأت به، وهي ماضية حتى النهاية أي نصر كامل، وإن كانت مستعدة لحلول ديبلوماسية في اليمن فتنتظر باهتمام ما ستسفر عنه مفاوضات مسقط مع الحوثيين والتي تجري برعاية أميركية، وفي نفس الوقت لم تخفف سخونة عملياتها العسكرية ضدهم في اليمن، وكانت حريصة أن تبلغ الإيرانيين أن مبدأ «خط فهد» لا يزال قائماً، وهذا المبدأ لمن لا يعرفه هو خط وهمي رسمته المملكة في منتصف الخليج العربي من الشمال إلى الجنوب خلال الحرب العراقية – الإيرانية. فهد هو العاهل السعودي الراحل، وأبلغت طهران أنها ستسقط أي طائرة عسكرية إيرانية تتجاوزه من دون أي إنذار، وهو ما حصل تماماً في 5 حزيران (يونيو) 1984 عندما تجاوزته طائرتا «أف – 4» إيرانيتان فتصدت لهما مقاتلات سعودية من طراز «أف – 16» وأسقطتهما في مياه الخليج. بعد تلك الحادثة احترمت إيران «خط فهد» بشكل كامل ولم تحاول أن تتجاوزه طوال العقدين الأخيرين، حتى قبل أسبوعين عندما حاولت طائرة مدنية إيرانية الهبوط عنوة في مطار صنعاء ثم أعقبت ذلك بمحاولة إدخال سفينة قالت إنها تحمل مواد إغاثية في ميناء الحديدة، وفي المرتين تصدت المقاتلات السعودية للطائرة والبحرية للسفينة وردتهما بعدما لوحت لهما بالقوة، وقامت بإبلاغ إيران أن «خط فهد» لا يزال قائماً بل امتد حتى اليمن، وأن المملكة لن تتردد في التصدي لها إن حاولت تجاوزه.
في كلتا الحالتين مارست إيران سياستها الشهيرة «حافة الهاوية»، وكان يمكن لخطأ غير مقصود كأن تتلامس أجنحة الطائرة الإيرانية بالمقاتلة السعودية فيحصل ما لا يحمد عقباه، فتسقط الطائرتان، ومعهما ضحايا، فيشتعل غضب شعبي مكبوت في البلدين فيدفع إحدى الحكومتين أو كلتيهما نحو حرب ومواجهة لا يريدها عاقل، ولكن لمنع ذلك من الحصول لا بد أن يمنع العاقل مجنونه الذي يريد أن يسجل انتصاراً تلفزيونياً سخيفاً.
بعيداً عن السعودية وإيران، فإن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة لا يريد كابوساً أسود كهذا أن يقع لتداعياته الهائلة على الاقتصاد العالمي، وهنا ستتفق حتى الصين مع الغرب في كراهية أمر كهذا، ولعل هذا يفسر الضغط الأميركي للتوصل إلى اتفاق سلام في اليمن، فكانت هي الداعية والراعية للمفاوضات الجارية الآن في مسقط مع الحوثيين، ولاحظ أنها وعمان هما من يتولى المفاوضات بينما المملكة والحكومة اليمنية تنتظران وتراقبان.
التورط الأميركي في الأزمة جيد، ولنتركها تتعرف إلى الحوثيين «بالطريقة الصعبة»، وهم تعلموا من الإيرانيين قدراً طيباً من فنون الكذب والتسويف والمراوغة، وحينها ستظهر حقيقتهم مرة أخرى للمجتمع الدولي ما يجعلهم يتفهمون الموقف السعودي. ولتجرِ مفاوضات في جنيف بين الحكومة اليمنية والتي يجب أن تتمثل فيها كل الأحزاب اليمنية خصوصاً الفعالة منها والحوثيين، سيطلب اليمنيون قبل السعوديين من الأمم المتحدة إلزام الحوثيين وصالح بوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح آلاف المعتقلين وحرية العمل السياسي، وهذا لا يعني سوى انتصار المقاومة الشعبية اليمنية، وهو أمر لم يتحقق إلا بالحرب أو التلويح بحرب أكبر من قبل المملكة.
الحروب دوماً قبيحة، ولكن الحرب العادلة ضرورية أحياناً من أجل السلام.