بعد بيان “محمد منتصر” المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين لم يعد ما لدى البعض من معلومات حول خلاف بين إدارة الجماعة القديمة والإدارة الحالية مجرد شكوك أو تسريبات، فظهور المتحدث الرسمي وتأكيده على شرعية الانتخابات الداخلية والإدارة الحالية للجماعة وعدم استمرارية “محمود حسين” في منصبه كأمين عام كان ردا واضحا وحاسما لا يقبل التأويل ولا يحتاج التفسير على أن هناك محاولة انقلاب واضحة حدثت وتم إجهاضها في مرحلتها الأولى، لكن كعادتي لا أحب الاسترسال في المعطيات الأولية التي أصبحت ظاهرة للجميع ومتاحة الآن، لكني أسعى الآن للإجابة عن سؤال أعمق وأكثر قدرة عن كشف مواطن الخلل الحقيقية.
ما الذي دفع محمود حسين والحرس القديم لمحاولة الانقلاب تلك، ولماذا أقدموا على “مغامرة/مقامرة” قد تؤدي إلى انقسام كبير في الصف وانهيارات لا تحمد عقباها في حال تم تصعيد الخلاف و إبرازه؟ ما الذي يدفع الحرس القديم – الذي قاتل دوما لإخفاء أي مشاكل داخلية منذ زمن بحجة الحفاظ على تماسك الجماعة وإبعاد الشامتين عنها – ما الذي دفعه لكسر كل هذه القواعد؟ ما الذي دفع الجيل الذي كان يرفض اعتبار أي تصريح لفرد إخواني أو قيادي معبرا عن الجماعة ودوما كان يحيل إلى المتحدثين الرسميين. ما الذي دفعه للدخول في صدام مباشر مع المتحدث الرسمي؟ أي دافع كبير هذا الذي جعل محمود حسين لا يعترف بالشورى ولا الانتخابات الداخلية؟ .. هذا الجيل الذي كان يقدم “تماسك” الجماعة على كل شيء أصبح هو اليوم مصدر الزعزعة!
ربما نحى البعض في الإجابة عن هذه التساؤلات منحى سطحيا في محاولات التفسير المتعجل والمرسل والمسلوق، يذهب بعض هؤلاء إلى أن الأمر مجرد صراع على “السلطة” معتمدا اعتمادا كليا أن الصراع هو على موقع الإدارة، وبالتالي فتوصيفه كصراع مافيات سلطة يوفر عليه عناء البحث عن الدوافع، حيث اعتباره “امتلاك السلطة” مجردةً هو سبب تفسيري كافٍ لفهم ما يحدث، ومن خلال هذا التفسير يحاول البعض إسقاط الجماعة أخلاقيا عبر وصمها بالتنافس المحموم على كراسي السلطة وكأن الجماعة تمتلك آبارًا من النفط المتدفق إلى جيوب قاداتها! لكن على الحقيقة الأمر أكثر تعقيدا وأبعد من كونه مجرد تنافس على مقعد القيادة.
يشعر الجيل القديم الذي سيطر على إدارة الجماعة لفترة طويلة دون رؤية “استراتيجية” حقيقية ودون تطوير فاعل للقواعد الشبابية ودون تطوير مفهوم ناضج للصراع مع دولة الاستبداد العربية، يشعر أن لديه حقا “أبويا” فوقيا يمنحه حق صناعة العناوين الرئيسية لأي مرحلة وصياغة المسارات الكبرى للجماعة، وهؤلاء في قرارة أنفسهم يعتقدون أنهم وحدهم الجيل الذي يتصل سنده بجيل السابقين، نظرا لاتصالهم مع الرعيل الأول للإخوان المسلمين، كما أنهم وحدهم من يستوعبون الأهداف الكلية والكبرى للإخوان كون الجماعة لا تمتلك وثيقة منهجية واضحة تنطلق منها إلى المحيط برؤية محددة، فالجماعة ليست “حزب التحرير” و ليست “تنظيم قاعدة” يمتلك رؤية ثابتة وتعريفات جامدة لما حولها، بل هي حالة تفاعلية تتكون رؤيتها للأحداث والمحيط ويتغير سلوكها بتغير المعطيات، ولا توجد “مدونة” فقهية أو عقدية ثابتة لدى الجماعة وإنما “ثوابت” قليلة في أصولٍ عشرين وأصول عامة للبيعة واجتهادات متفرقة في الرسائل، وحتى اجتهادات البنا ذاتها يتم تجاوزها داخل الجماعة باختيارات أخرى.
وعليه يرى الجيل الذي يتصل سنده بالرعيل الأول أنه في ظل جيل جديد حديث السن يعرف السياسة أكثر مما يعرف أصول جماعته مشتبك في صراع عنيف مع عدو أشد من “عبدالناصر”، ومتقارب مع محيط إسلامي فيه من “التطرف” أكثر مما فيه من الاعتدال وفي ظل مناخ إقليمي مليء بالدماء والصراعات، فإن قدرة هذا الجيل وإدراكه لما يتوهمه هؤلاء “القدماء” من كونه أصولا وقواعد لخط الجماعة العام وفهمهم لمنهجها.
سيكون إدراكا ضعيفا وغير مكتمل، وبهذا يكون هذا الجيل قد خط خطا كهنوتيا جديدا من حيث الوصاية على الرؤى والمسارات، إن ما حرك جيل محمود عزت ومحمود حسين ليس مجرد “الإزاحة” بل التحول المحموم داخل الميدان المصري نحو اشتباك أقوى مع النظام و تطوير أدوات وعناوين أكثر صدامية ربما وأكثر بعدا عن منطق المواءمات، ولهذا يظن “حسين” و “عزت” بكل بساطة أن الجماعة طالما خرجت عن مسارهم هم وفهمهم هم لسلوكها فقد خرجت عن كونها “إخوان” وربما تتحول إلى شكل آخر!
لم يفتأ “غزلان” ورفاقه أن يحذروا دوما من سيناريو “٥٤” و سيناريوهات الدم والمحنة، محذرين الإخوان من الانجرار خلف هذه القيادات الشابة قليلة الخبرة كثيرة الحماس، وكأن جيل عزت وغزلان لم يدخلنا في سيناريو أكثر قتامة ودموية!
وكأنه لم يقدم الإخوان على طبق من ذهب للنظام العسكري يذبحهم في رابعة والنهضة وخلفهم قطاعات كبيرة من الإسلاميين! أي فتنة تلك التي يتحدثون عنها ونحن نعيش فصولا أسوأ منها بما كسبته أيديهم، إن الجيل الذي لايثق “عزت وغزلان وحسين” في قدرتهم على فهم أهداف الجماعة وفهم السياسة هو الجيل الذي رباه هؤلاء! الجيل الذي جرفته القيادات السابقة وجعلوه مجرد “جندي” مطيع يسلم للقيادة الربانية الزمام حتى أوتي من تحت الحزام! ودخل في دوامة صدمة وتيه واكتشف فجأة أن القيادة الربانية لم تكن تعد لهذا اليوم عدته كما هو شعار “وأعدوا” ولم تكلف نفسها فهم طبيعة الدولة والصراع ثم وقعت في شراكها مكلفة الجماعة آلاف الدماء التي سفكت بلا مقابل.
الإجابة إذا واضحة.. لم يعد يحتمل “غزلان – عزت – حسين” أن يروا الجماعة تغرد بعيدا عن المنهج الذي توهموه هم لها، في حين أنه لا منهج رسمي حقيقي لجماعة الإخوان مكتوب، كل ما فعله البنا هو أن خط لهم خطا أوله مجتمع وآخره خلافة، وقد ارتضى في مراحله حمل السلاح وارتضى في أخرى الدعوة والتربية وارتضى في مواطن عمل السياسة، ولم يخط للإخوان خطا سلوكيا واضحا وبالتالي كان للجماعة من المرونة الكافية والقدرة على التأقلم مع كل الظروف ما منحها هذا العمر المديد والانتشار الفريد وحمل لواء الأمة حتى بدايات الثورات، لكن الاختلال الذي أدخله الجيل القديم على الجماعة في فهم طبيعة الأعداء الجدد وآليات مواجهتهم، هو ما أدى إلى بروز رؤية تجديدية تطوي صفحة جيل العجز وقلة الحيلة وتحاول وهي في بداياتها أن تقدم نموذجًا جديدًا للصراع وتمتلك حق التجربة والخطأ كما امتلكه سابقوهم دون وصاية أو تسلط أو فوقية!
وإن كنت ذكرت في مواضع سابقة عن سعي دول إقليمية عربية وغير عربية للحل مع النظام المصري وجوبهت بتصلب قيادات الداخل تصلبًا واضحًا فإن عنوان الوصاية عاود الظهور من جديد في محاولة أخيرة لقلب الطاولة على الخط الجديد ومساره، فقد انتهت الأزمة بطي كامل صفحة هذا الجيل القديم الذي أحرق نفسه في محاولة أخيرة لاستعادة ما تبقى منه.
الأمر إذًا واضح، انقلاب بهذا الحجم وهذه الجرأة ما كان ليحدث لولا أن هذا الجيل شعر بأنه يفقد وصايته على الأفكار والمسارات وليس أي شيء آخر، ليس كرسيا ولا جاها فالإخوان تقل فيهم هذه الأدواء مقارنةً بغيرهم ولكنها الوصاية الفكرية والاحتكار الفكري، إنه خلاف على تعريف الإخوان وماهيتهم ومنهجهم وموقعهم المستقبلي!