بإجماع المراقبين والمحللين والمتابعين، بموضوعية، للشأن السياسي المصري، تنهض شهادة الدكتور محمد البرادعي “وبتقول عليه دكتور” كأخطر وثيقة إدانة لجريمة الانقلاب ضد التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر.
وأظن أنه من السذاجة أن يختلف اثنان حول أهمية اعتراف الرجل الثالث في بدايات مؤسسة “30 يونيو/ حزيران 2013” بأن ما جرى كان انقلابا، وخروجاً على ما تم الاتفاق عليه، إذ يقول نصاً إن “ما حدث بعد ذلك كان مخالفاً تماما لما وافقت عليه كخارطة طريق. ما وافقت عليه: 1. إجراء انتخابات رئاسية مبكرة 2. خروج كريم للسيد محمد مرسي 3. نظام سياسي يشمل الجميع، بما فيهم الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين 4. بدء عملية مصالحة وطنية وحوار وطني وحل سلمي للاعتصامات، وقد كانت هناك خطة جيدة للبدء في هذا الطريق. ولكن، كل هذا ألقي به من النافذة وبدأ العنف، وعندما يكون العنف هو الأسلوب، ويغيب عن المجتمع مفهوم العدالة والهيكل الديمقراطي للعمل السياسي، فلا مكان لشخص مثلى، ولا يمكن أن أكون مؤثراً”
ولا تأتي أهمية الشهادة من أهمية وحساسية موقع قائلها فقط، وإنما تكتسب أهمية إضافية من المكان الذي أعلنت فيه “مؤتمر حالة الاتحاد الأوروبي” الذي انعقد في إيطاليا، أول دولة أوروبية احتضنت قائد الانقلاب، كما لا تنبع فقط من خطورة فحواها، بل للتوقيت أيضا حساسية شديدة.
لن أخوض طويلا في مضمون شهادة البرادعي، فقد فعل ذلك كثيرون وباستفاضة، ولن أجادل في تخطئة البرادعي وإدانته، لقبوله المشاركة في عمل سياسي تقوده المؤسسة العسكرية التي طالما نادى برفع يدها عن السياسة، لكني سأتوقف عند ردود الأفعال على هذه الاعترافات المدوية.
أزعم أن ما قاله البرادعي أهم وأخطر وأقوى تأثيراً من محتوى مليون ساعة ضوئية من البث الفضائي المناهض للانقلاب العسكري، وأجدى من ملايين الهكتارات من الثرثرة الصحافية، التي يجول (نعم بالجيم) بها راكبو الدراجات النارية الرخيصة في حواري وأزقة السياسة هذه الأيام، كونها شهادة “شاهد من أهلها”.
غير أن ما يثير الأسى على المصير البائس الذي أوصلتنا إليه حالة الصراخ واعتماد الصوت العالي الجهول معياراً للثورية والشرعية، أن بعضهم استقبل هذه الهدية المعرفية التاريخية الثمينة بفتح صنابير السباب البذيء لصاحب الشهادة، والاستغراق في حالة “ردح”، تتخذ شكلا منهجيا لا يتغير، من دون بذل أدنى جهد لاستثمار هذه الاعترافات، في إطار جهد سياسي وإعلامي رشيد، لإيقاظ أولئك المخدوعين بما جرى، في الداخل، وإحراج ذوي الضمائر الميتة، وداعمي هذه الجريمة، في الخارج.
هي لحظة استسلام لهيستريا السباب والمشتمة، لا تختلف كثيراً عن موقف نقيب زبالي زمن الانقلاب من تغريدة السفير البريطاني في القاهرة، التي أراد من خلالها بذكاء أن يسخر، بشكل عملي، من مناخ العنصرية والطبقية الذي يلف مصر، على هامش أزمة وزير العدل المستقيل، بعد تصريحاته عن عدم قبول أبناء جامعي القمامة في المناصب القضائية.
نقيب الزبالين الذي صدق أنه فعلاً نجح في إزاحة وزير العدل من منصبه، رد على اللفتة الحضارية من سفير بريطانيا، حين أعلن ترحيب سفارة بلاده بتوظيف أبناء عمال النظافة، رد بوصلة سباب لبريطانيا وأميركا، ولسان حاله يهتف (تحيا مصر، يحيا السيسي) على اعتبار أن ذلك منتهى الوطنية وحب الوطن.
ومن أسفٍ أن تكون الرغبة المستعرة في النيل من البرادعي مقدمة على واجب الاستفادة مما يقول، والتعامل معه بجدية، على اعتبار أنه “شاهد إثبات” على جريمة، لا تتوقف محاولات إخفاء معالمها، بكميات من الأتربة، تفوق حصيلة “الحفر على الناشف” في مشروع قناة السويس 2″.
ولا يقل مدعاة للأسى عن رغبات الإهانة، لمجرد الإهانة، حالة التعلق غير المبررة بشخصية محمد البرادعي، من جديد، كحل للمأزق الراهن، ومحاولات استدعائه، أو استجدائه، لنزول الملعب مجددا، على الرغم من أن تجربة العامين الماضيين تبرهن على انتهاء صلاحية النخب القديمة، وضرورة بزوغ نخبة أخرى، لم تكن سببا في صناعة الكارثة.