بعيدا عن الجانب الفكاهي، في قضية الاتحادية، فإنني أعتقد بأن الحكم فيها صدر -على قسوته- لصالح الرئيس محمد مرسي والذين معه!
الحكم استبعد تماما الاتهام بالقتل وحيازة أسلحة دون ترخيص، مع أنها قضية كانت تدور منذ اللحظة الأولى لها في إطار الاتهام بقتل اثنين من المتهمين، أحدهما هو زميلنا الصحفي الحسيني أبو ضيف، الذي لقي حتفه في الأحداث.
ولأن مصر كانت تعيش في هذه الفترة حالة من الانقسام السياسي، فقد استغلت القضية في اتهام الرئيس وجماعته بأنهم من قتلوا الزميل الصحفي. وفي جنازته التي شاركت فيها كانت الهتافات ضد الجماعة، ومطالبة بالثأر منها!
مما قيل، أن الحسيني، وقد كان من أنبل الصحفيين الشبان وأكثرهم استقامة، قد التقط بكاميرته صورا لأحداث قصر الاتحادية، وكانت الصورة تسجل وقائع قتل الإخوان لعشرة من المتظاهرين، فصار لهذا هدفا بهدف الاستيلاء على الكاميرا.
هذا الدافع وراء القتل جرى ترديده، ثم صار يردد كما لو كان أمرا مفروغا منه، ولم يهتم أحد من الجانبين بتتبع الكاميرا، ليعرف أين استقر بها المطاف، والشاهد أنها سلمت لرئيس تحرير جريدة “صوت الأمة”، بعد أن سقطت من يد الحسيني أبي ضيف بعد عملية اغتياله.
وإن كانت ثمة صور تكشف الجناة في هذه الأحداث، فليتم سؤال من استلمها، وهو رئيس التحرير “عادل حمودة”، ولو كانت التقطت صورا تشير بأن الإخوان هم من فعلوها، لأذاعها، فهو من الذين وقفوا ضد حكم الرئيس مرسي، لأنه الأقرب بانتماءاته السياسية للثورة المضادة!
اختفت كاميرا الحسيني أبي ضيف، ومن عرف لمن سلمت لم يعلن هذا، حتى لا يضعف الدليل على أن الإخوان هم من ارتكبوا جريمة قتله وقتل الآخرين، قبل أن يتبين أن ثمانية منهم ينتمون للإخوان، وقد اتهم أولياء الدم رموز جبهة الإنقاذ بقتلهم، لأنهم دعوا للحشد هناك، وأباحوا لأنصارهم استخدام القوة.
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة، فقد جرى ذلك كثيرا في وقائع أخرى لم تقتصر فقط على محاولة اقتحام المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين، فقد تشكل تنظيم مسلح حمل اسم “البلاك بلوك”، بهدف إثارة الفوضى في البلاد، بحماية وتمويل من خططوا لإسقاط الرئيس المنتخب، وعودة حكم العسكر.
ولم يهتم أحد بالتوصل للحقيقة، فربما كان القاتل هو من قتل زميله في السابق، وفي أيام الثورة، “أحمد محمود” الصحفي بدار التعاون، وهو يلتقط من أمام مقر مؤسسته الصحفية القريب من “ميدان التحرير” صورا، فاستهدفه قناص، تم الإعلان وقتها أنه يتبع وزارة الداخلية، وهي الطريقة ذاتها التي قتل بها “الشيخ عماد عفت” في “ميدان التحرير”، والجميع كان يتحدث عن أن الجاني يتبع “الطرف الثالث”، والآن وقف الجميع على أن هذه الطرف هو الطرف الأول “بشحمه ولحمه“.
لقد تحول “الحسيني أبو ضيف” إلى “قميص عثمان”، وقد ادعى الانقلابيون وصلا به، وهو المنحاز للثورة، والمعبر عن براءاتها، بعد أن اكتشف من ظلموا الحسيني حيا، بعد مماته أنه ناصري!.
لكن المحكمة التي نظرت في القضية، برأت الرئيس وجماعته من دماء الحسيني والمجنى عليه الآخر، لقطع الطريق على من يشككون في سلامة الإجراءات، لا سيما وأن ثمانية شهداء سقطوا في هذه الأحداث حفظت قضيتهم، مع وحدة الموضوع، ولو اتخذت الإجراءات القانونية السلمية لاتسع قفص المتهمين، للرئيس وخصومه، وللثورة، والثورة المضادة التي مهدت الطريق للانقلاب العسكري.
لقد استبعد الحكم اتهام الرئيس محمد مرسي ومن معه بالقتل، ولعل ضمير الرجل صار أكثر راحة الآن، وقد نقل عنه حزنه الشديد، عندما علم بأن دماء سالت أمام القصر الجمهوري، وربما ظن لحظتها أن الحرس الجمهوري قام بواجبه، دفاعا عن القصر، وهذا من مهامه القانونية، فقال: مالي وكل هذا؟ وقيل إنه قرر الاستقالة ليلتها، فأقنع بالعدول عنها؛ لأن المؤامرة أكبر من التعامل معها بكل هذا النبل.
ومهما يكن، فقد تأسس الحكم بالإدانة، على “استعراض القوة”، والتعذيب، والاحتجاز! ليطرح هذا السؤال: من هم الذين تم استعراض القوة في مواجهتهم، ومن الذين جرى احتجازهم وتعذيبهم، وملف القضية لا يحتوى سوى على مقتل اثنين من الجناة، وحيازة أسلحة دون ترخيص؟!
التعاطي الإعلامي، ومن جميع الأطراف، لم يتعرض لكثير من التفاصيل المهمة في هذه القضية، وقد افتقدنا المعالجة الإعلامية الموضوعية الهادئة، التي تناقش مع هيئة الدفاع الأمر في القانون وبعيدا عن السياسة؟!
هل أثارت جهات التحقيق والادعاء الاتهام باستعراض القوة، وكيف كان هذا؟ فهل نزل الرئيس أمام خصومه بحزام الكاراتيه الأسود، فمثل هذا اتهام استحق أن يتم الحكم عليه بسببه عشرين سنة، وخمس سنوات تحت مراقبة الشرطة؟!
ومن هؤلاء الذين قال لهم المتهمون الآخرين: “بخ”، فمثلت “بخ” بالنسبة لهم تخويفا ومساسا بأمنهم الشخصي؟!
لست ميالا لمناقشة الجانب الكوميدي في هذه القضية على أهميته، لأنني أرى فيها ما هو أهم. ولو تعاملنا بحسن نية، لقلنا إن الدائرة أخذت بأخف الضررين، فجاء الحكم مشددا، وباتهامات تمثل عبورا آمنا لحكم محكمة النقض بإعادة المحاكمة!.
لا نعرف إن كان الاتهام جرى طرحه من قبل النيابة العامة والرد عليه من قبل “هيئة الدفاع”، أم أن المحكمة تركت الجميع في اتجاه، حتى إذا اطمأنت لبراءة المتهمين مما هو منسوب إليهم بالقتل وحمل أسلحة غير مرخصة، فاجأت الجميع بالإدانة بنصوص قانونية أخرى! وباتهامات غير تلك التي قامت النيابة العامة بتكييف القضية على أساسها. وهل هذا جائز قانونا ؟!
لا بأس، فعندما يتحدث القانونيون في السياسة، ويتركون القانون، فيلام الصحفي إن تحدث في القانون.
اللافت أن الرئيس ومن معه تم الحكم عليهم بمقتضى “قانون البلطجة”، وبمواد “الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة”، وهو باب أدخل على قانون العقوبات، لكن المحكمة الدستورية العليا قضت في جلسة 7 مايو 2006، وفي القضية رقم 83 لسنة 23 قضائية دستورية، بعدم دستورية هذا الباب كاملا من حيث الشكل ودون التطرق للموضوع، لأن نصوصه تندرج تحت إطار القوانين المكملة للدستور.
ومع هذا لم تعرض على مجلس الشورى، ومعظم القوانين التي قضت الدستورية العليا في عهد الرئيس المخلوع بعدم دستوريتها كان لهذا الشرط الشكلي والجوهري في الوقت ذاته.
وفي حكم المجلس العسكري عقب ثورة يناير، وأمام حالة الفوضى الأمنية، وتراخي الشرطة عن القيام بمهامها بعد هزيمتها في يوم جمعة الغضب، أصدر المشير محمد حسين طنطاوي مرسوما بقانون في فبراير 2011، يتضمن هذه المواد التي تتحدث عن استعراض القوة، وما إلى ذلك، ونشرت تصريحات لقانونيين ينبهون فيها إلى عدم دستورية هذه النصوص، للحكم السابق، ولم ينتبهوا إلى أن حكم عدم الدستورية السابق، كان في الشكل، وقد انتفى بقرار المشير الذي حيزت له سلطة التشريع بمقتضي قرار التعيين من قبل المخلوع مبارك، وقد حُل مجلس الشورى، ولم يعد له وجود!.
لم يناقش قانوني يومها أو بعد الحكم بإدانة الرئيس مرسي، إن كان شبهة عدم الدستورية تمتد للموضوع أم لا؟!
لكن المفاجأة هنا أن المواد التي تم إدانة الرئيس ومن معه في أحداث الاتحادية بمقتضاها، هي موضوع طعن أمام المحكمة الدستورية في فبراير 2015، لأن محكمة الموضوع رأت عدم دستوريتها، ما يحول دون الحكم بمقتضاها، وهي دعوى يمكن أن تمكن من وقف تنفيذ الحكم ضد الرئيس مرسي، لحين الفصل فيها، ولعل هذا يفسر الإجراء المتسرع والمضحك، الذي اتخذته سلطة الانقلاب بحبس الرئيس في اليوم التالي خمسة عشر يوما في قضية “فض رابعة”، والرئيس ليس هو من “فضها”، فضلا عن أنه كان مختطفا لحظة وقوعها!.
يبدو أنه إجراء احتياطي اتخذوه ليرتبوا حكما في قضية من القضايا الأخرى المتهم فيها الرئيس محمد مرسي، احترازا لأي مفاجأة.
نحن في بلد يُلعب بالقانون فيه “كرة شراب“!