شهدت المنطقة تغييرات سياسية واستراتيجية كبيرة خلال الفترة الماضية؛ وهي تغييرات تؤثر بلا شك على ثورتنا المصرية المجيدة، إذ إن تتابع الأحداث في المنطقة من جهة، وثبات الثورة من جهة أخرى؛ يمثلان العاملين الرئيسيين في التأثير على مستقبل هذه الثورة.
وفي محاولة لفهم الحاضر والمستقبل، لا بد من العودة إلى التاريخ القريب. فقد تشكلت للنظام حاضنة إقليمية كبيرة بعد الانقلاب العسكري، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الإعلامي، وسخرت الدول الداعمة كل أدواتها لمساندة السيسي ونظامه، ظناً منها أنه قادر على قمع الثورة المصرية بشكل سريع، ذلك أنهم اختزلوا الثورة في ذلك الوقت بالإخوان المسلمين، وجعلوهم على رأس قائمة الأعداء الذين يجب التخلص منهم لإنجاح الانقلاب وأهدافه.
فعلى المستوى السياسي، قدمت الدول الحاضنة للانقلاب، وعلى رأسها السعودية –في عهدها القديم- والإمارات والكويت والبحرين، قدمت دعماً كبيراً للسيسي في المحافل الدولية كما حدث، على سبيل المثال، في الاتحاد الإفريقي الذي تعرض لضغط سياسي من هذه الدول بهدف إعادة ضم مصر إلى مؤسسات الاتحاد.
ومن جهة أخرى، مارست تلك الدول وخاصة الإمارات ضغطاً كبيراً على بريطانيا لفتح تحقيق حول نشاطات جماعة الإخوان، بهدف الوصول إلى نتائج سريعة تعتبر الجماعة منظمة إرهابية. كما قدمت هذه الدول كل أنواع الدعم لمنع تنفيذ أي ملاحقات قضائية للنظام بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
لقد كان ممثلو الدول الداعمة للسيسي يلهثون وراء ممثلي الثورة المصرية في محاولة لإزالة أي آثار لزياراتهم، التي كان لها دائماً تأثيرات إيجابية على البرلمانات والمنظمات غير الحكومية وأحياناً عند بعض الحكومات.
وعلى الرغم من كل هذا الدعم، إلا أن نظام السيسي فشل في تحقيق أي استقرار لنظامه ووأد القوى الوطنية فيها، كما أملت تلك القوى الداعمة له.
ولابد من القول هنا أن المعركة خارج مصر أصبحت انعكاساً لما يجري على الأرض، فكلما قويت الثورة في الداخل ضعف موقف الدول الداعمة للانقلاب إقليمياً ودولياً، وقد بات واضحاً أن هذه الدول لم تمتلك نفساً طويلاً كالذي امتلكته الثورة، وبينما تستمر الحركة الدبلوماسية الداعمة للثورة خارجياً بفعالية كبيرة؛ أصبحت حجة الدول الداعمة للانقلاب سخيفة ومكررة. ولذلك فإن المحاولات لكسر إرادة الثورة سياسياً ستفشل، لأن الثورة أقوى بثباتها وفعلها على الأرض.
وإذا أردنا الحديث عن التحولات الإقليمية الراهنة وتأثيراتها على مصر، فإن من أهمها على الإطلاق تلك التغييرات في هرم السلطة في السعودية، بعد وفاة الملك عبد الله، وانتقال السلطة إلى الملك سلمان مع دور كبير للأمير محمد بن نايف والأمير محمد بن سلمان.
وقد كان واضحاً منذ اليوم الأول في العهد الجديد أن تغييراً كبيراً تشهده المملكة من ناحية طريقة التعاطي مع الملفات الساخنة التي خلفتها الإدارة السابقة، والتي كان الفاعل الرئيسي فيها خالد التويجري الذي ينظر إليه كممثل للإمارات في المملكة. وبناء على تقييمنا للتطورات في السعودية، فإن المتوقع أن أولويات العهد الجديد ستختلف عما كانت عليه في السابق، بما في ذلك تراجع أولوية محاربة المملكة للإخوان، والتركيز بدلاً من ذلك على تثبيت الوضع الداخلي ثم ملف اليمن والتهديد الإيراني وملف "تنظيم الدولة".
وقد كان التوجه الجديد واضحاً في أجندة لقاء الملك سلمان مع الرئيس التركي أردوغان، حيث لم تكن مصر على رأس الملفات بين الزعيمين، فيما سيطرت الملفات الثنائية الأخرى على اللقاء.
إن السياسة السعودية المعلنة تقوم على اعتبار الاستقرار في مصر أمراً بالغ الحيوية، وهو الأمر الذي لا تراه المملكة ممكناً من دون الجيش، ولذلك فقد أكدت في أكثر من مناسبة أنها لا تؤيد السيسي كشخص، بل تساعد الجيش كي يحافظ على استقرار المنطقة.
ويبدو أن هذه السياسة في طور المراجعة من القيادة السعودية الجديدة، في ظل فشل نظام السيسي وقيادة الجيش في فرض الاستقرار، بل وثبوت أن هذا النظام سبب في انعدام الاستقرار وانتشار الفوضى.
ودون كثير من التعليق على هذا التغير الاستراتيجي، فإن من الممكن القول إن السعودية في كل الأحوال لن تكون الداعم الأكبر لنظام السيسي، ولكنها في الوقت نفسه لن تكون داعمة للثورة .
وعلى الرغم من التوجس السعودي تجاه الثورة، إلا أن الموقف الجديد لا يعتبر سيئاً، إذ إن الثورة طالما أكدت أنها لا تسعى لتصدير أدبياتها وآثارها للخارج، لأن لكل دولة وضعاً مختلفاً عن الدول الأخرى.
وعلى أية حال، فإن المواقف السياسية تتغير باختلاف الظروف، وها نحن نرى تواصلاً سعودياً مع إخوان اليمن وحزب الإصلاح، في ظل وجود مصلحة مشتركة بين الطرفين؛ ولمواجهة تهديد مشترك أيضاً.
وقد أثبت الواقع أن نظام السيسي لا يمكن الاعتماد عليه والوثوق به من قبل السعودية كحليف في الملفات الملتهبة بالمنطقة، خصوصاً بعد التردد في مواقفه تجاه الأزمة اليمنية وتواصله مع أطراف النزاع العاملة ضد السعودية هناك، ومقاربته المختلفة جذرياً من الأصل مع الموقف السعودي في سوريا.
وفيما يتعلق بنا فإن استراتيجيتنا في هذا الشأن واضحة وهي تقوم على أنه لا تنازل عن ثوابت ثورتنا، وأننا سنقابل أي مواقف إيجابية من السعودية تجاه ثورتنا بمواقف إيجابية من طرفنا.
أما في جانب الدعم الاقتصادي الإقليمي للانقلاب، فقد أنفقت الدول الداعمة ما لم ينفق على أي دولة في هذه الفترة القصيرة، إذ يبلغ إجمالي ما حصل عليه قائد الانقلاب من الدول الداعمة أكثر من 50 مليار دولار، وهو مبلغ كان كفيلاً أن يحدث تغييراً نوعياً في اقتصاد مصر؛ إلا أن من حصلوا عليه هم ليس إلا عصابة فاشلة.
لقد استولت هذه العصابة على أموال كثيرة من المساعدات، ولم يدخل البنك المركزي منها إلا أقل من 10% فقط؛ ومن ناحية أخرى لم توجه أي من هذه الأموال لخدمة المجتمع سواء صحياً أو تعليمياً أو في إنشاء مشروعات تستوعب البطالة المتصاعدة في مصر.
وعلى الرغم من كل هذا الدعم، إلا أن مصر في عهد الانقلاب لم تحرز أي تقدم في أي من المؤشرات الاقتصادية؛ سواء في مستوى التضخم أو عجز الموازنة أو الميزان التجاري، كما أن التقارير الدولية وحتى التقارير المحلية (كتقرير التعبئة والإحصاء) توضح الانخفاض في المؤشرات كلها سواء التنافسية أو الاستثمارية وغيرها.
إن التغيرات الجديدة في المنطقة عالمياً وإقليمياً لن تمكن الدول الداعمة من تقديم المساعدات الضخمة للسيسي كما حصل في السنتين السابقتين، حيث انخفضت أسعار البترول إلى النصف تقريباً، كما أن المنطقة تقف على أعتاب صراعات كبرى لا يعلم مقدار تأثيرها على اقتصاد الدول الداعمة.
وتعتبر نتائج زيارة السيسي الأخيرة للسعودية مثالاًٍ واضحاً على هذا التغيير، فقد طلب السيسي خلال مقابلته القصيرة التي لم تتجاوز الساعة، طلب أن تدفع المملكة فاتورة الأسلحة التي اتفق سابقاً أن تصدرها روسيا لمصر بتمويل سعودي، ولكن رد الإدارة الجديدة أنهم غير ملتزمون بأي صفقة لم يوقع عليها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز.
لقد فشل المؤتمر الاقتصادي سوى بمنح بعض الغطاء السياسي للسيسي، ولكن نتيجته الاقتصادية كانت "صفراً"، إذ إن الدولة التي ضيعت مساعدات بقيمة 50 مليار دولار دون فائدة، حصلت على وعود من هذا المؤتمر فقط بـ"3" مليار دولار للبنك المركزي، والباقي وعود وحسن نوايا وكلام لا يبنى عليه اقتصاد، خصوصاً وأن هذا الاقتصاد يعاني من انهيار حقيقي تخطى فيه الدين المحلي 2 تريليون جنيه والدين الخارجي 46 مليار دولار؛ وأغلقت فيه آلاف المصانع والورش في آخر عام ونصف، مما أدى إلى تشريد مئات الالاف من العمال.
والنتيجة والحال هذه، هي أن الحراك المستمر منذ الانقلاب كشف عجز الدولة عن تحقيق أي تقدم، وإلى فشلها في تقديم أوراق اعتمادها دولياً، وإلى الإخفاق في استثمار الدعم الاقتصادي غير المسبوق إقليمياً، وهو ما يعني أن الثورة نجحت في إثبات أن نظاماً انقلابياً فاسداً مجرماً كنظام السيسي، لا يمكن أن يتقدم اقتصادياً مهما بلغ مستوى الدعم العالمي والإقليمي له.
أما في مجال الدعم الإقليمي الثالث للانقلاب وهو الإعلام، فقد سخرت الدول الداعمة للسيسي أدوات إعلامها كلها لتشويه الحراك السلمي ووصمه بالإرهاب، ولإضفاء صبغة الشرعية والإنجاز على نظام انقلابي فاشل، حيث تعامت قنواتهم عن رؤية القتل الممنهج وكل أنواع الانتهاك للمتظاهرين والمعتقلين، وظلت تروج لمجموعة من الأكاذيب سئمها المستمعون من كثرة تكرارها، وسعت لإيهام المصريين أن ثمة إنجازاً يحدث على الأرض، بينما لا يرى المواطن في الواقع إلا أن حياته تزداد بؤساً.
ومع استمرار الأكاذيب أدرك قطاع واسع من المشاهدين تدليس إعلام الانقلاب وداعميه.
ومن المفارقات في هذا المجال، انقلاب الإعلام المصري المرتبط بالعسكر ضد داعميه الأساسيين، بسبب تغير القيادة السعودية وبوادر الافتراق في المواقف السياسية بين مصر والسعودية في الملفات الإقليمية.
وعلى الرغم من كثرة الإخفاق التاريخي في ملف الإعلام من التيارات المؤيدة للثورة، إلا أن الإعلام الثوري قام منذ الانقلاب بكل ما يقلق النظام ويخلخل استقراره، حيث أصبح للثورة إعلام يعبر عنها ويطور من نفسه، ويفضح النظام الانقلابي في مصر من خلال تسريبات من داخل مكاتب الحكم وانفرادات إعلامية مهمة؛ تكشف هشاشة النظام وفساده، وتدل على تدني ووضاعة هذه العصابة العسكرية التي أرادت أن تركع شعبنا وتذل كرامتنا.
والخلاصة، أن الوضع الإقليمي الداعم للانقلاب لم يجد من السيسي إلا كل إخفاق في الملفات المهمة كلها، إذ لم يستطع أن يفي بأدنى وعوده في أي من هذه الملفات، وقد باتت الدول الداعمة أمام سيناريوهات سيئة في ظل هذا الإخفاق، ولعل بعض هذه الدول ستحاول قريباً أن تسعى لمخرج من هذه الورطة، وسترى يومها أن الثورة قد تعلمت من أخطاء الأمس وأن هذا النظام إلى زوال.
يحيى حامد: وزير الاستثمار في حكومة د. هشام قنديل.
نقلا عن عربي 21