لم يؤت الشيخ أحمد ياسين بسطة في الجسم، ولكنه أوتي بسطة في البصيرة والإرادة، بيد أن هذه البسطة في البصيرة والإرادة جعلت من هذا الجسد الهش الضامر هوية تعرف بها القوة الخفية فيه، ويستدل بها على تلك القوة الخاصة التي فاضت من هذا الجسد على آلاف الرجال معه ومن بعده، حتى انكسرت حصون جالوت المصفحة على مشارف خنادقهم في غزة، وفي أنفاقها وأعماق بحرها حيث تشرق أنفاس الرجال تطلب رضا الله وحده، ولا تظهر للناس إلا بآثارها المتجسدة صمودًا في المعركة وإثخانًا في العدو أو صعودًا إلى الله الذي ذكروه بأنفاسهم وسواعدهم وعرقهم ودمائهم.
استكنّ سر القوة في هذا الجسد الضامر، بحواسّه الكالّة العييّة، حتى فاض به وعنه، ثم خلّده بأن جعله حجة باقية، محيرة رغم جلائها، ولا يزيدها وضوحها إلا غموضًا، فالقوة المكنونة التي يؤكد عليها الجسد الضامر تنبثق من سر خاص يختص به الله بعضًا من عباده، الذين خفّوا بأجسادهم فسارت بهم رغم عجزها الظاهر لمّا أرادوا الله وحده وجهة للذهاب، ووهبوا الحياة لما بدا جسدًا ميتًا حتى صار فيض حياة، وبعضًا من صور الخلود، ونثر نور قائم ما شاء الله للأرض الطاهرة والأرواح المشتاقة، بينما تثقل أجساد صحيحة بأصحابها، وتخلد بهم إلى الأرض وتتبع أهواءها، وتهبط بأصحابها من رفعة النفحة الربانية إلى حمأة العمى المادي اللازب.
وإذا كان الله تعالى قد رفع الحرج عن أصحاب الأعذار وجعل لهم مخرجًا، وقد علم جل وعلا ما يعانونه من عنت ومشقة، وإذا كان في الشيخ أحمد ياسين ثبات فؤاد للذين أعيتهم هذه الطريق الدامية، ونهشت من عزائمهم خسائرها الفادحة، وأنهكهم في دروبها الحرمان المقيم والخذلان المستمر، فإن الذين فروا قبل أن يدخلوا التجربة، أو التفتوا أثناء المسير، أو جعلوا حظوظهم الخاصة ركنًا في مقاصدهم، أو كل مقاصدهم، أو خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا ولم يعترفوا بذنوبهم؛ أولى الجميع بالاعتبار بهذه الحجة الباقية، والنفاذ من بريقها الباهر إلى عمقها الذي نواته قوله رحمه الله: “أملي أن يرضى الله عني”، معلنًا عن ذاته المحررة بلا ادعاء، وكرامته التامة، بانخلاعه الكامل من علائق هذه الدنيا، خاصة في هذا الوقت العصيب الذي ينتفش فيه اليأس كما تنتفش فيه “الأنا”، ويكثر فيه المتأولون لأنفسهم الذامون لغيرهم، بينما لا تكلّ بقية الشيخ أحمد ياسين تحفر الأرض في خفاء، وتبدع سلاحها، وتحكم خطتها، وتعد للقاء اليوم الآتي، وأجرها على الله تعالى.
لم يقف الشيخ أحمد ياسين متذمرًا على ضفاف الحركة الإسلامية في فلسطين، ولم يهرب من سؤال المواجهة إلى سؤال الثقافة، ولم يتخلص من مسؤوليته على طريقة المثقفين البارعة بالإلحاح الدائم على عجز وضعف الآخرين وتخلفهم عن اللحاق باللحظة التاريخية وضيق أفقهم عن استيعاب المعرفة، ولم يفر من ضيق الواقع إلى رحابة النصوص، ومن كبد الفعل إلى سهولة الادعاء، ومن ندرة الممكنات الواقعية إلى وفرة المقترحات النظرية، لكنه تحول بجسده الضامر إلى رافد أساسي ضخم التقى مع بقية الروافد الأخرى في الضفة وغزة وخارج الوطن للانتقال بالحركة الإسلامية في فلسطين هذه النقلة الكبرى، والقفز بها إلى الأمام، بعد محاولات لم تنتقص من إرادته وزادته بصيرة حينما اندمجت الحركة الإسلامية بالانتفاضة الأولى في إمساك بصير باللحظة التاريخية.
لم يكن الشيخ أحمد ياسين العامل الوحيد في هذا التحول الكبير، الذي عظّم من حضور الحركة الإسلامية بعدما كانت مهددة بالضمور والإخراج من التاريخ، وانتقل بها إلى قيادة الحركة الوطنية، وجعل منها متن المقاومة في فلسطين، ورافعة الأمة، ونموذجها الملهم للجهاد الرشيد، ولكنه، رحمه الله، كان عاملاً أساسيًا في هذا التحول، وما دام قد اختار مكانه في حركة التاريخ، وتبين أن هذا المكان صار عامل تحول كبير على مستوى الحركة الإسلامية وفلسطين والمنطقة العربية والعالم، فإنه لا بد من التأمل المستمر في هذه الظاهرة المعجزة، حينما يساهم رجل بجسد ضامر في صناعة التحولات التاريخية الكبرى.
لم يترك الشيخ أحمد ياسين نصًا مقروءًا، ولكنه ترك معرفة ثرية جديرة بالدرس، لا تكتبها لغاتنا المعروفة، ولكنها تنطبع أثرًا حيًا في التاريخ، وخط نظرياته ممارسة مباشرة في الواقع، وفكرًا يختلط بالناس ويختلط بالتراب والسجون، واختار أن يكتب أفكاره رجالاً يتعاقبون في كمائنهم يقاتلون العدو.
ويبقى أيضًا، رحمه الله، موعظة خاصة في جملة وعظه تعالى بالشهداء الذين يتخذهم ويقيم بهم حجته، وما أبلغها من حجة حينما اتخذت من الشيخ أحمد ياسين مثلاً.