تدور تساؤلات عديدة عن التوقيت الذي ربما يفقد فيه الدولار هيمنته علي الاقتصاد العالمي .
وفي تحليل لوكالة "الأناضول" حاول الإجابة عن السؤال السابق ومشيرا فيه لمحاولة دول بريكس "البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا" إقامة مؤسسات تكسر احتكار صندوق النقد والبنك الدوليين المتحكم بهما الغرب.
وتساءل التحليل هل يعني هذا أن هيمنة الدولار على نظام النقد الدولي باتت مسألة وقت؟
وشهدت العملة الأمريكية -أي الدولار- مؤخرا ارتفاعا كبيرا في سعرها تجاه اليورو والعملات الأخرى بفعل أملين رئيسيين: يستند الأول على التوقع بقرب رفع سعر الفائدة الرئيسي الذي ما يزال بحدود 0 إلى 0.25 %، أما السبب الثاني فيستند على التوقعات بزيادة قوة تعافي الاقتصاد الأمريكي التي ما تزال نسبة نموه بحدود 2.5 %، مقارنة بأقل من 1 % في الاتحاد الأوروبي.
ووفقا للتحليل فأن هذين الأملين يبدوان في غير محلهما حاليا، بعد إعلان الاحتياطي الفدرالي (أي البنك المركزي الأمريكي) في النصف الثاني من شهر مارس 2015 أنه ليس في عجلة من أمره لرفع سعر الفائدة، لأن مؤشرات النمو لا تشير إلى مزيد من التعافي، كما لا تنبئ بارتفاع معدلات التضخم.
وعلى ضوء ذلك فإنه من المنطقي توقف صعود الدولار إزاء اليورو والعملات الأخرى لو تعلّق الأمر بمؤشرات الاقتصاد الأمريكي.
غير أن العملة الأمريكية لاتخضع للمنطق الذي تخضع له العملات الرئيسية الأخرى في العالم، كونها العملة العالمية المتحكمة بالتبادل التجاري العالمي والعملة شبه الوحيدة لشراء وبيع المواد الأولية وفي مقدمتها النفط والغاز.
وعليه فإن جميع دول العالم بحاجة إلي الدولار -كعملة ثانية إلى جانب عملاتها الوطنية- من أجل تجارة سلعها، لاسيما الاستراتيجية منها.
وحسب رأي الكثير من المحللين فإن استمرار الهيمنة العالمية للدولار لم تعد أمر مسلما به منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية سنة 2008 وذلك لأن الاقتصاد الأمريكي بات يعاني من مديونية عالية وأزمة بنيوية .
ويعكس هذا الأمر تراجع القوة التصديرية للاقتصاد الأمريكي واستمرار أزمته البنيوية التي تسببت بالأزمة المالية العالمية الأخيرة وأزمات أخرى سابقة كادت أن تودي بالنظام النقدي الدولي الحالي إلى الهاوية.
ويزيد الطين بلة ارتفاع حجم الدين الأمريكي إلى أكثر من 18 تريليون دولار، أي ما يزيد على الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي المقدر بنحو 17 تريليون دولار. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التزامات صناديق الدعم الاجتماعي فإن ديون الولايات المتحدة تصبح أعلى من ديون اليونان قياسا إلى الناتج الإجمالي.
رغم ذلك يستمر البنك المركزي الأمريكي بطباعة مئات المليارات من الدولارات ليضخها في السوق بحجة محاربة الانكماش وإنعاش الاقتصاد.
هذا الوضع المقلق، وفقا للمحللين، يدفع الكثير من الدول -وفي مقدمتها الصين وروسيا والهند- إلى تقليص احتياطاتها من العملة الأمريكية بشكل تدريجي وسري لصالح التحوط باليورو والذهب وقيم أخرى.
كما أن الأزمة المالية التي تعصف بعدة بلدان في منطقة اليورو دفعت مؤخرا إلى المزيد من الحذر إزاء التحوط بالعملة الأوروبية والاتجاه إلى شراء الذهب والتحوط به.
وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن هناك موجة قوية صاعدة في مختلف أنحاء العالم لشراء الذهب إلى الحد الذي يبدو فيه الأمر وكأنها تعمل على تشكيل احتياطي ذهبي على غرار ما كان عليه الحال حتى سبعينات القرن الماضي، عندما كانت قيمة العملة مرتبطة بحجم التغطية الذهبية.
وأشار التحليل لكتاب "الانهيار النقدي/ The death of Money" الذي يتحدث فيه الكاتب الأمريكي المعروف جيمس ريكاردس عن مؤشرات انهيار النظام المذكور لصالح نظام لم تتضح ركائزه بعد.
ومن هذه المؤشرات على سبيل المثال محاولة دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) إقامة مؤسسات مالية لايهيمن عليها الغرب واليابان كما هو عليه الحال في حالتي صندوق النقد والبنك الدوليين.
وقد خططت دول البريكس لإرساء دعائم هذه المؤسسات -التي ينبغي عليها تمويل مشاريع البنية التحتية وحل الأزمات- رصد مبلغ لا يقل عن 150 مليار دولار حتى الآن. أما الجديد هنا فهو تقديم القروض بشكل لا يعطي الأفضلية للدولار الأمريكي.
غير أن الصين -حسب ريكاردس- لا تكتفي على هذا الصعيد بالعمل في إطار البريكس، بل تكثف شرائها للذهب وتعقد اتفاقات لتمويل صفقات دولية بالعملة الصينية "اليوان".
ولعل أبرزها اتفاق للمقايضة بين الفرنك السويسري واليوان، مما يفتح المجال لاعتماد العملة الصينية كعملة احتياط دولية بشكل متزايد.
وبدورها تعمل روسيا، بعد فرض العقوبات الغربية عليها في خضم الأزمة الأوكرانية، إلى تخفيف اعتمادها على الدولار من خلال اتفاقات دفع ثنائية بالعملات الوطنية مع الصين والهند وإيران وغيرها.
أما في العالم العربي فإن الخطوة الأكثر إثارة في هذا السياق تتمثل في إقدام السعودية على فتح بورصتها أمام المستثمرين الأجانب بشكل يسهّل على الصينيين وغيرهم الاستثمار في الشركات والصناديق السعودية.
وهو الأمر الذي سيساعد الأخيرة على التخفيف من اعتمادها على النفط الذي يباع بالدولار. مصلحة الجميع في تحولات هادئة تحتفظ جميع دول العالم -بهذا القدر أو ذاك- بكميات كبيرة من العملة الأمريكية كاحتياطي تحتاجه لتمويل تجارتها واستثماراتها. فالصين لوحدها، وعلى سبيل المثال، لديها ما يقارب 2 تريليون دولار.
وعليه فإن مختلف البلدان، لاسيما التي لديها احتياطات كبيرة من الدولار ليس لديها مصلحة في التخلص منه بسرعة بشكل يسبب حالات ذعر في الأسواق ويؤدي إلى انهيار دراماتيكي في سعر الدولار بشكل يهدد قيمة احتياطاتها منه.
ومن هنا فإن تخفيف الاحتياطي منه بشكل تدريجي وهادئ لصالح بدائل أخرى من جهة، وإقامة مؤسسات مالية إقليمية ودولية تنهي نظام الهيمنة من جهة أخرى، قد يكون أحد أنسب السبل نحو بناء نظام نقدي دولي جديد يشكل الدولار أحد ركائزه بدلا من أن يكون المتحكم به.
وختم التقرير بأنه يتبقي أن نتنظر لمعرفة الإجابة على أسئلة تطرح نفسها هنا: هل سيقوم النظام الجديد على سلة عملات أم على أساس التغطية الذهبية أم على كليهما؟ وأي دور سيلعبه صندوق النقد الدولي في حال إرساء دعائم صناديق تمويل دولية بعيدا عن هيمنة الغرب؟