من بين العوامل التي نجم عنها انقلاب عبد الفتاح السيسي؛ فإن العامل الصهيوني لم يحظ بالقدر الكافي من اهتمام الباحثين، خاصة مع الاتجاه التحليلي السائد والذي يغلّب الاعتبارات الداخلية على السياقات الإقليمية والدولية التي دفعت نحو إنجاز هذا الانقلاب، كما أن التفسيرات التي كانت تأخذ تلك السياقات بعين الاعتبار لم تعط العامل الصهيوني وزنه النسبي الصحيح، ولم تصف ذلك العامل أيضًا بالشكل الصحيح.
وعدم الاقتراب الكافي من طبيعة العلاقة التي تربط قائد الانقلاب بالعدو الصهيوني؛ سيمنعنا من تحصيل الفهم الكامل لهذا الانقلاب، وسيحول دون قدرتنا على توقع سلوكه العدواني سواء في الداخل المصري، أو ضد القضية الفلسطينية، وخاصة في استهدافه للمقاومة الفلسطينية التي يمثل قطاع غزة قاعدتها، وحماس عمودها الفقري ومتنها الأساسي.
فالقصور في إدراك حجم الدور الصهيوني في الانقلاب، ومستوى تبعية نظام الانقلاب للصهاينة؛ لا ينبني عليه إلا تصورات قاصرة بالضرورة، تظهر استغرابها من تصنيف القضاء المصري لكتائب القسام منظمة إرهابية، وتختزل هذا السلوك الشاذ في هروب النظام الانقلابي إلى الأمام من عجزه عن حل المعضلة الداخلية، سواء المعضلة الأمنية في سيناء، أو معضلة الشرعية المتآكلة في الشارع المصري مع تصاعد حركة المعارضة الثورية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
لا شك أن العامل الداخلي مهم جدًا في صياغة سلوك النظام الانقلابي، ودفع هذا النظام لخلق عدو خارجي، في تقنية قديمة معروفة من طرف الطغاة، سبق وأن استخدمت مصريًا طوال حقبتي السادات ومبارك ضد الشعب الفلسطيني، إلا أنها ورغم ما اتسمت به من سميّة عالية في تلويث الوعي المصري، وقبح شديد في تشويه الشخصية المصرية، فقد بقيت محصورة ضمن حدود مرسومة لم تجعل النظام المصري شاذًا بالنسبة لمجمل المنظومة الإقليمية العربية.
إلا أن هذا العامل لا يكفي وحده لتفسير سلوك نظام عبد الفتاح السيسي؛ وهو الأمر الذي يفرض علينا أن نستحضر كامل الممارسات التي استهدفت الفلسطينيين منذ ثورة 25 يناير، حتى اليوم الذي يعلن فيه النظام الانقلابي كتائبَ القسام تنظيمًا إرهابيًا، ثم نعيد نظمها في خيط متماسك قادر على إعطاء تلك السياسات وزنها الحقيقي والخطير، وبالذات حينما تصل إلى الحدّ الذي يدمّر فيه عبد الفتاح السيسي مدينة مصرية كاملة، بهدف تركيع سكان قطاع غزة، وتطويق المقاومة فيه وحرمانها من السلاح، بعدما قدمت أداء بطوليًا ومبهرًا طوال 51 يومًا في حرب (العصف المأكول)، وهي الحرب التي بدا فيها النظام الانقلابي أقرب ما يكون إلى بيدق تحركه يد صهيونية مفضوحة بلا حرج!
لقد بلغ عبد الفتاح السيسي الدرجة التي يجعل فيها مصر بلدًا عربيًا شاذًا بالنسبة لمجمل المنظومة الإقليمية العربية، حتى بالنسبة لتلك الدول التي ساهمت في الترتيب لانقلابه ورعايته، كالسعودية والإمارات، فإن هذه الدول لم يصل بها العداء، حتى اللحظة على الأقل، إلى أن تدرج الجناح العسكري لحماس في قوائمها الخاصة بـ “الإرهاب”، وبقيت تتعامل مع الحركة بقدر من الاعتراف المقبول، بالرغم من أن سجون بعض هذه الدول، لم تخل من كوادر وقيادات الحركة التي تميل إلى معالجة هذه المشكلات بهدوء بعيدًا عن التصعيد انسجامًا مع خطها الذي يقضي بكسب الأصدقاء أو تحييد الأعداء قدر الإمكان!
وعلى هذا، فإن الكلام عن افتقاد مصر لدورها الإقليمي بسبب سياسات النظام الانقلابي تجاه حماس، بما في ذلك احتمال حرمان هذا النظام من دوره كوسيط في أي أمر تكون كتائب القسام أحد طرفيه؛ يفتقد لمعناه ووجاهته ما دام هذا النظام يؤدي وظيفته كما رُسم له صهيونيًا، على الأقل فيما تعلق بسيناء وقطاع غزة، ولذلك ليس علينا أن نستغرب إذا وصلت هذه السياسات مستويات شديدة الخطورة وبالغة الشذوذ.
وهنا لا بد من التنويه إلى أن الحديث عن حرية الإعلام واستقلال القضاء في مصر بات شيئًا خارج التاريخ، بعدما ثبت وعلى نحو يقيني بأن هذا الإعلام لا ينطق، وذلك القضاء لا يحكم؛ إلا بما تمليه عليه إرادة ما يسمى بالأجهزة السيادية في مصر، بما يكشف في النهاية عن حجم الاختراق الصهيوني للدولة المصرية، والذي يتجلى الآن في حكم عبد الفتاح السيسي.
إلا أنه، ومهما كان تقييمنا للدور الصهيوني في الانقلاب المصري ونظامه الناجم عنه، فإنه لا يجادل في خطورة هذا النظام وسياساته المشبوهة، إلا المعوقين ضميريًا، مما لا يجدون حرجًا في التلطخ بعاره، أو التمرغ في وحل المكاسب الرخيصة.