شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

للإرهاب وجوه أخرى

للإرهاب وجوه أخرى
أثار حادث فرنسا، ومقتل 12 صحفي من جريدة “شارلي إيبدو”، ردود فعل مختلفة على المستوى الشعبي....
أثار حادث فرنسا، ومقتل 12 صحفي من جريدة “شارلي إيبدو”، ردود فعل مختلفة على المستوى الشعبي. فيما عكفت الحكومة الفرنسية على اتخاذ بعض التدابير الجديدة تحت اسم “الحرب على الإرهاب” و”الوحدة الوطنية”.
 
في حوار أجراه موقع “الاشتراكي” مع الكاتب الاشتراكي التونسي رفيق خلفاوي يوضح السياسات العالمية الحالية والتداعيات في ظل ذلك الحادث.
 
1 – برز مؤخرا مصطلح “الحرب على الإرهاب” كمحور هام لسياسات السيسي في مصر، كما استخدمه نظام الأسد السفاح في قتل وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري. فيما انطلق الإعلام العربي، المفضوحة مواقفه تجاه المقاومة الفلسطينية، بتشبيه حادث فرنسا بأحداث 11 سبتمبر بأمريكا والهجوم على الإسلاميين. كيف يمكن أن نفهم، بين هذا وذاك، تعريف الإرهاب؟
 
‫- كل هذه الأنظمة التي ذكرتموها، بدون استثناء، تلجأ إلى مطية الحرب على الإرهاب لارتكاب أبشع الجرائم في حق شعوبها، فهي في معظم الأحوال تخلق الظروف الملائمة لترعرع الإرهاب أو تشجع على ظهوره حينما لا تترك سبيلا آخرا لمواجهة سياستها القمعية التسلطية أو رفض اختياراتها السياسية والاجتماعية اللاشعبية‫. ليس هناك داع للاستغراب حينما تستعمل الجماعات الإرهابية نفس هذه الحجج لتبرير عملياتها الوحشية، لدفع آخرين للالتحاق بصفوفها والتمرد على هذه الأنظمة “الطواغيت”، غير أن ذلك لا يضفي بطبيعة الحال آية شرعية على أعمالها الإجرامية ولا يبرئ مرتكبيها مما اقترفوه.
 
من ناحية أخرى فإن معظم الأنظمة، في ذات الوقت الذي تشن فيه حروبها على الإرهاب، تجد نفسها متحالفة مع أنظمة أخرى راعية للإرهاب، تدعمه سياسيا وعسكريا وتتعامل معه وفقا لما تقتضيه مصالحها الاقتصادية، السياسية والاستراتيجية، كما نجد تحالفات غريبة الأطوار حيث تتحالف أنظمة ديمقراطية مع أنظمة ديكتاتورية في طريق الحرب على الإرهاب. كما إنها فرصة لظهور أكثر المواقف السياسية الدنيئة الصادرة عن صقور هذه الحرب.. يكفي أن نستحضر ردود فعل بعض قادة الدول الغربية المنخرطة في حروب على الإرهاب عقب الإعلان عن وفاة عاهل المملكة العربية السعودية، الملك عبد الله واعتباره “مدافعا عن السلام والتقدم في الشرق الأوسط”، والحال إنه لا يُخفى على أحد أن النظام السعودي الوهابي علاوة على إنه أكبر مصدر للنفط، يحتل مرتبة ممتازة في تصدير الإرهاب والظلامية والتخلف.
 
كما أن مفاهيم الإرهاب والحرب عليه لم تتغير كثيرا في مصطلحاتها وتكييفاتها في حين أن مجال تطبيقها يتراوح بين الشيء وضده. خذ مثلا أسامة بن لادن الذي اُعتبر “محاربا للحرية” عندما كان يحارب الاتحاد السوفياتي ليتحول ابتداءا من ٢٠٠١ إلى “عدو الولايات المتحدة الامريكية رقم ١” والرجل الذي يجب القضاء عليه، أو الدعم العسكري واللوجيستيكي والإعلامي المفضوح لجماعات إرهابية أثناء الحرب ضد القذافي سريعا ما تم وصف عناصرها من طرف مسئولي وديبلوماسي وسائل إعلام الحلف الإمبريالي بـ”الثوار” من جملة الذين ثاروا ضد الديكتاتور.
 
وجدير بالملاحظة إنه ليس بالضرورة أن تتم هذه الحروب ضد الإرهاب داخل الحدود الإقليمية للبلدان المعنية، فعادة ما تستدعي لقيامها أشكالا مختلفة من التدخل المباشر أو غير المباشر في بلدان أخرى، تكون مدتها في أغلب الأحوال مدعوة للاستطالة أحيانا قبل انطلاقها.
 
في العشرية الأخيرة أصبحت مسألة الحرب على الإرهاب من أولويات العديد من الحكومات، بدءا من الولايات المتحدة، فهي ترصد له ميزانيات خاصة وتحشد له العتاد والخبراء وتدير لأجله التحالفات الدولية والاقليمية. لكن دعونا نعود إلى الجزء من سؤالكم المتعلق بتعريف الإرهاب، فما هو مفهومه؟
 
في المصادر العسكرية الأمريكية جرت العادة على تعريف الإرهاب بأنه أي استخدام بطريقة محسوبة ومخططة مسبقا “للعنف” أو “التهديد بالعنف” و”الترهيب” و”الإكراه” أو “الخوف” “لأغراض سياسية أو دينية”. إنه مفعوم مستمد من الفقه القانوني الداخلي والدولي وهو ما يفسر تقارب كل المفاهيم وفي نفس الوقت عدم وضوحها ودقتها، فباستنادنا على هذه التعريفات لن نقف مثلا على الحد الفاصل بين “الجريمة المنظمة” وبين الإرهاب، أو عن الفرق بين المقاومة الشعبية التي قد تأخذ منحى عنيفا وبين أي شكل آخر من الإرهاب. ثم متى يستدعي الإرهاب حربا ضده ومتى لا يقتضي ذلك؟ وماذا عن إرهاب الدولة أو الإرهاب النظامي وما هي ضوابطها؟
 
لعل عدم الوضوح مقصود أساسا أو كون الموضوع أكثر من أن تستوعبه عملية وضع قواعد قانونية أو صياغة مفاهيم بعينها. وعلى كل حال فإن هذا المفهوم غير بريء، مطاط ويمكن الدول وأقوياء هذا العالم استعماله كلما دعت الضرورة وحسب ما تستدعيه المصالح. إنه يمكن حشر حركة مقاومة وطنية مثل حماس الفلسطينية في خندق التيارات والحركات الإرهابية، والحال إنها تواجه المستوطن الصهيوني الغاصب الذي هو قبل كل شيء ربيب هذه القوى المحترفة للحرب ضد الإرهاب، والتي تدًعي محاربة الإرهابيين في حين تبيع لهم الأسلحة والعتاد إذا لم تكن سبب لظهورهم.
 
وليس حركة حماس فحسب، فحتى ماضٍ قريب كانت منظمة التحرير الفلسطينية “فتح” وسط تقلبات مواقف وتحليلات الولايات المتحدة التي تصنفها كحركة إرهابية معتبرة رئيسها رجلا خطيرا لا تتأتى منه سوى المشاكل، لكنهم متأكدون من مدى اعتدال ورصانة مسئولي دولة إسرائيل “الديمقراطية بلا منازع في الشرق الأوسط”، الذين حتى وإن ارتكبوا مجازرا في حق الشعب الفلسطيني، فذلك يجوز من باب الدفاع عن النفس!
 
إن هذا التكييف مدعاة للضحك حينما نتذكر موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الأفغان، في ثمانينات القرن الماضي، خلال الحرب الباردة، عندما كانت تعتبرهم حركة تحرر وطني! إن هذه المفاهيم هي التي تمكن هذه القوى الإمبريالية والأنظمة الديكتاتورية من تصنيف الإرهاب كما تشاء إلى جيد وسيئ مما يفتح الباب إلى كل المناورات والتحالفات الغريبة وما يتبعها من إعلانات عن الحرب والسلم.
 
الالتجاء إلى الآليات الأمنية القسرية التي تستوجبها محاربة الإرهاب أصبحت الخبز المقدس للأنظمة الديكتاتورية التي تضيف إليها، للمزيد من “المصداقية”، جريمة “التواطئ مع أطراف أجنبية”.
 
فالعالم المتحضر لم يحرك ساكنا حينما عمدت أجهزة قمع السيسي إلى قتل 1400 من أنصار مرسي، من بينهم حوالي 700، في غضون بضع ساعات في اعتصامات سلمية. العالم المتحضر لم يشمئز، بالرغم من استياء منظمة الأمم المتحدة حينما رمت أجهزة السيسي القمعية بالتعاون مع القضاء الفاسد بأكثر من 41 ألف شخص في السجون وحُكم على المئات منهم بالإعدام في محاكمات مهزلة دامت بعض دقائق.. لاشيء أكثر من ترديد الخبر بشكل محتشم في الصحافة ووسائل الإعلام العالمية، ليس مستغربا ألا تستنكر القوى الدولية الانتهاكات اليومية للحريات الديمقراطية والحقوق النقابية. طبيعي، فالسيسي يحارب الإرهاب!
 
نفس الشيء يُقال عن النظام الديكتاتوري للأسد. خطة النظام كانت واضحة منذ البداية: لا بد من منع الحراك السلمي نحو التجذر. لابد من سحبه نحو الفتنة الطائفية ودفعه نحو العمل المسلح. حينها ستكون مكونات الحرب على الإرهاب مجتمعة، حينها يُمكن استعمال الوسال الضخمة: البراميل المتفجرة، قصف المدن المتمردة، فرض الحصار، والنتيجة نعرفها: أكثر من 150 ألف قتيلا، ما يقارب نصف مليون جريح، والملايين من المشردين في حالات إنسانية مأساوية وبلد في حالة خراب!
 
الآن، في المقابل لا يكف الإرهاب عن التمدد عسكريا وجغرافيا والتعدد في فصائله وتلويناته، في حين تبقى الشعوب هي الضحية الأولى، رهينة غطرسة الأنظمة الديكتاتورية وسياسات التفقير من جهة، وغطرسة الجماعات الأصولية الإرهابية من جهة أخرى، سجينة مجموعات مسلحة من الجانبين.
 
2 – أثارت مسيرة فرنسا ضد الإرهاب سخرية كبيرة بمشاركة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كيف تقرأ الحشد الإعلامي والحضور الرئاسي في تلك المسيرة؟
 
هذه المسيرة استطاعت حشد مليون ونصف شخص في باريس وحدها غير أن تصدّرها من طرف بعض الرؤساء والشخصيات المشبوهة من أعداء حرية الرأي والتعبير كان بدون منازع مهزلة بداية هذه السنة‫. لم تستطع منظمة ‫”مراسلون بلا حدود‫” أن تترك الفرصة تمر دون أن تذكر رؤساء الدول التي تحتل آخر مراتب التصنيف الدولي بخصوص مدى احترامهم لحري الرأي والتعبير، ومن ضمنهم على سبيل المثال مصر (159)، وتركيا (154) والجزائر (121) والإمارات (118).ليس فحسب، فمن دواعي السخرية أيضا ذلك الخطاب السخيف والمغالط للرئيس الفرنسي هولاند الذي اكتشف فجأة أن بلاده في حرب‫! فهو لا يجهل أن بلاده كانت على الدوام ولازالت تخرج من حرب أو تدَخل عسكري لتنخرط في آخر‫.
 
لنلقي نظرة على السجل العسكري لفرنسا بمفردها في السنوات الأخيرة‫. حافل ما شاء الله!
لقد تدخلت فرنسا في ساحل العاج في عام 2002، لتليها جمهورية أفريقيا الوسطى من 2002 إلى 2013، بعد ذلك تدخلت القوات الخاصة الفرنسية عام 2003 في أفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب، ثم في ليبيا في عام 2011، ثم في مالي عام 2013 وبعدها منطقة الساحل والعراق في عام 2014. هذه فقط قائمة التدخلت الفرنسية بمفردها، يستثني منها كل التدخلات الأخرى في إطار تحالفات قارية وفي إطار منظمة الأمم المتحدة‫. وكما يتضح جليا، ففرنسا لم تكف عن تدخلاتها وعن خوض حروبها الإمبريالية على الأقل منذ ١٤ سنة‫!
 
فكأن تاريخها العسكري يلاحقها‫.. مَن يشن الحروب عليه أن يتوقع رد فعل ‫”العدو‫”.
ثم ان الرئيس الفرنسي عليم بأمور السياسة الفرنسية الداخلية التي تنبعث منها كراهة العنصرية والإسلاموفوبيا والتمييز في التشغيل الذي يعاني منه الفرنسيون من أصل أجنبي والأجانب الذين تعمر بهم الأحياء الفقيرة في أحزمة كل المدن الفرنسية‫.
 
حادث ‫”شارلي هيبدو‫” كان فرصة لفتح أعين السلطات والمواطنين على مسألة مهمة وخطيرة لا بد، علاوة على التنديد الصارم بها، الانعطاف على بحث أسباب حصرها ومعالجتها بأنجع الطرق، لكن الحسابات السياسية كانت الأسهل بالنسبة للمسئولين الفرنسيين وممثلي الدول الأخرى.
المملكة العربية السعودية، وروسيا، وتركيا‫.. كلهم ‫”شارلي‫”.. جزارو الشعوب المنافقين‫. المسيرة انتهت ورجعوا إلى بلادهم ليبدأوا من يوم الغد التضييق على حرية الرأي والتعبير‫، منها المملكة السعودية التي حكمت بعد يومين على المدون رائف بدوي بـ ألف جلدة بتهمة “الإساءة إلى الإسلام‫”!
ناتنياهو قاتل أطفال غزة، تسيل دماء الأبرياء الفلسيطينيين من أنفه‫.. هو أيضا ‫”شارلي‫”!
 
نتنياهو ومحمود عباس على نفس الصورة لايفصل بينهما سوى 4 أشخاص‫!إنهما لم يظهرا معا منذ 2010، بما يعكس حساباته وبراغمياته وسط هذا الريح المعادي للإرهاب.. كل الإرهاب بما فيه حركة حماس!
 
أما ناتنياهو فبالبرغم من أنه شخص غير مرغوب فيه في فرنسا لما يخلقه من حساسيات قد تغير للمسيرة عن مجراها لتنقلب ضد الجميع وكذلك نظرا لما يتطلبه من حماية أمنية مكثفة، إلا أنه عزم على الحضور. والحال، كما كتب رئيس مركز الإعــلام البديل في مدينة القدس، ميشيل فارشوسكي، أن الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية في الأفق ‫- شهر مارس المقبل ‫- وأن منافساه أفيغدور ليبرمان ‫(رئيس ديبلوماسيته‫) ونافتالي بينات ‫(وزيرة للاقتصاد‫) كانا قد خططا وأعلنا عزمهما على المشاركة في مسيرة باريس ومن ثمً الالتقاء بالجالية اليهودية‫. لا شيء بدون حسابات‫.. كل شيء مضبوط‫.
 
خلاصة القول، لقد كانت هذه المسيرة ليس أكثر من موكب استعراضي لمجموعة من المنافقين ركبوا على حشد جماهيري لتوجيهه وفق سياساتهم‫. فبالنسبة لفرنسا من المؤكد التلويح براية ‫”الحرب على الإرهاب‫” مقدمة لتمرير قانون على شاكلة ‫”الباتريوت آكت‫” الأمريكي المتضمن إجراءات سريعة لمكافحة الإرهاب عبر توسيع صلاحيات الشرطة والأجهزة الأمنية لتمكينها مثلا من تفتيش الأغراض الشخصية للأفراد ومراقبة الاتصالات الهاتفية والمراسلات ومراقبة الإنترنت‫.
 
ولقد تواكبت وسائل الإعلام الضحلة مع هذا الموضوع، لافظة ما كمن من آخر فظاعاتها بخصوص الإرهاب، وضرورة الوحدة الوطنية ضد الإرهاب وللحفاظ على قيم وثوابت الجمهورية، وكم من عناوين تلمح إلى الإسلام السياسي، وأخطار الهجرة وتمجد قوى الأمن وهيبة الدولة‫.
 
3 أيام فقط بعد العملية الإرهابية ضد ‫”شارلي إيبدو‫” قام إرهابيو ‫”بوكو حرام‫” بنيجريا بقتل ما يقارب ألفين شخص في أبشع مذبحة ترتكبها هذه المجموعة الإسلامية حسب منظمة العفو الدولية‫. غير أن ذلك لم يكن كافيا لجلب اهتمام قادة هذا العالم الذين ابتسموا أمام الكاميرات في المسيرة الباريسية‫.
 
3 – تشهد أوروبا، منذ عدة سنوات، أزمة اقتصادية حادة أعلنت عدة دول على إثرها الإفلاس، فيما انطلقت الإضرابات العمالية والمسيرات الاحتجاجية بالشوارع الأوروبية تعلن رفضها لسياسات التقشف. في المقابل، تراجعت الحركة العمالية في بناء تنظيمات ثورية وعكفت الحكومات على الاستمرار في سياساتها. هل ترى أبعادا لتأثير حادث فرنسا على خطاب القوى اليمينية بأوروبا؟
 
منذ عام ٢٠٠٨ ترزح العديد من البلدان الأوروبية تحت وقع أزمة مالية حادة سرعان ما تحولت إلى أزمة اقتصادية يعتبرها أغلب المحللين أسوأ أزمة منذ الانهيار الكبير في الثلاثينات.‫ وقد كشفت الأزمة المالية الاختلالات الهيكلية في بعض الاقتصادات مثل اليونان حيث تفاقمت أزمة الديون والعجز مما انتهى بالتضحية بها وجعلها كمخبر تجارب في منطقة اليورو للإصلاحات الهيكلية وتدابير صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بعد أن كانت هذه الإجراءات تُرتب في اقتصادات البلدان النامية.
 
لكن توصيات التقشف والقطع في الميزانيات أدت إلى تفاقم سريع لأزمة هذه البلدان وموجة من النضالات الاجتماعية العارمة وحركات الاحتجاج المتعددة الأبعاد (عمالية، وشبابية، ونسوية، وإيكولوجية..) انطلقت من جنوب أوروبا – اليونان، والبرتغال، وإسبانيا – لتكتسح الحركة المطلبية معظم بلدان القارة. وقد نشبت اشتباكات عديدة بعضها دامية بين المتظاهرين والشرطة في عدة مدن من إيطاليا واليونان وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وبولندا، واستخدمت النقابات العمالية في هذه البلدان سلاح الإضراب العام احتجاجا على سياسات التقشف المُنتهجة من طرف الحكومات المختلفة تحت إشراف الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
 
كما انتشرت ظاهرة احتلال الساحات العامة في مختلف البلدان الأوروبية، وإن كانت هذه الحركات الاحتجاجية الواسعة قد مكنت اليسار الثوري في بعض البلدان من الوصول إلى البرلمانات، مثلما هو الحال في إسبانيا، وبلجيكا، وألمانيا، ناهيك عن الفوز الساحق لسيريزا في اليونان مما يمكنها من الوصول إلى الحكم، فإن الحركة تبقى مطلبية وأحيانا دفاعية في معظم البلدان الأخرى. الشيء الذي لم يمنع الحكومات من التمادي في سياساتها التقشفية والهجوم على حقوق الفئات الجتماعية الضعيفة (النساء، والعاطلين عن العمل..) أو اتخاذ إجراءات أخرى أكثر عدوانية مثل تصفية القطاعات العمومية الحيوية، وتشجيع المهن الصغيرة mini-jobs مثلما هو الحال في ألمانيا، من إطالة سن التقاعد، وإلغاء المنح المختلفة، وتضييق نطاق أوغلق أبواب الهجرة والنزوح‫، والتشكيك في الحق النقابي ومحاولة تضييقه.
 
وبما أن الأزمات ليست الوضع الصحي لمجتمع ما، فعادة ما تجر خلفها المآسي والآفات الاجتماعية، فقد تفاقمت ظاهرة التشرد والدعارة والإجرام. لكن الأدهى هو أن يُضاف إلى هذه الأزمة ظهور تيارت فاشية ونازية جديدة وشرسة سواء في اليونان ‫(الفجر الذهبي الذي حقق انتصارات انتخابية في 2012-2013 و2014)، أو في ألمانيا، وكذا انتعاش الأحزاب اليمينية والقومية في بلدان مثل سويسرا والنرويج وهولندا.
 
وتجدر الإشارة إلى أنه، ورغم كل ما يُقال عن انتعاش التيارات اليمينية في اليونان وإسبانيا، يبقى محدودا رغم الأزمة الاقتصادية، وقد يرجع ذلك إلى التاريخ الخاص وتجربة هذين البلدين مع حركات مماثلة‫.
 
من المعلوم أن الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا مختلفة وإن تشابهت والتقت في بعض المصالح أو الرؤى‫. غير أن السنوات الأخيرة شهدت انتعاشا لتيارات يمينية شعبوية شحذت خطابها على نار الأزمة الاقتصادية الخانقة وخاصة عن طريق زرع الخوف من فقدان الهوية الأوروبية بفعل الهجرة والإسلام‫.
 
وتجدر الإشارة، ونحن نتكلم عن انتعاش الحركات اليمينية، إلى حركة ‫(PEGIDA) ‫- مختصر لاسمها الذي يعني “وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب”، وهي حركة معادية للإسلام بدأت في دريسدن بألمانيا منتصف أكتوبرالماضي، لكن سرعان ما تفرعت إلى النمسا وسويسرا والدول الاسكندنافية، وإسبانيا وبلجيكا‫. في آخر مظاهراتها نظمت هذه الحركة مسيرة في ألمانيا يوم ١٢ يناير الحالي تعدادها 17 ألف شخص وطالبت بتنظيم مسيرة بمدينة انتوربن ببلجيكا يوم 26 يناير، لكنها قوبلت بالرفض لدواعي أمنية في نفس الوقت مع رفض طلب تنظيم مظاهرة مضادة لها‫.
 
إن هذه الحركة تعد المثال الحي عن تأثير الخطاب اليميني ووسائل إعلامه في الوعي الجماهيري في وضع أزمة وسهولة وصول صداه اذا ما تزامن مع خطاب مشبوه لممثلي الجهات الرسمية وسياسة الدولة المحاربة مثلا للهجرة ولحرية ارتداء الحجاب بالنسبة لفتيات المدارس أو الموظفات، وتبقى الأزمة الاقتصادية العميقة واتساع الهوة بين اللأكثر فقرا والأكثر غناء كالأرض الخصبة لترعرع هذه الآفات الخطيرة.
 
في رأيك، كيف يمكننا مواجهة الإرهاب فعليا في أعقاب متغيرات المنطقة وتراجع الثورات العربية؟
 
إن مسألة الإرهاب ومحاربته لا تتعلق فقط بشكلية تعريفه. لعل أولى الأولويات هي الانكباب على فهم جذوره وأسبابه لصياغة مفهوم محايد لا تحكمه الاعتبارات السياسية، ولا تؤثر فيه موازين القوى الدولية، لكن كذلك التفكير في كيفية محاربته وبأي الوسائل بعيدا عن التنظير المجرد بناء على خصوصياته في كل بلد أو جهة. فلن تقضي الحروب العسكرية على الإرهاب مهما طال أمدها ما دامت المدارس والمساجد، والفقر والتخلف هم مهد تطوره المستقبلي. ولن يتم القضاء على غول الإرهاب بدون حرب إيديولوجية واسعة ضد أفكاره ومشروعه عبر المدارس والجامعات من خلال تعليم ديمقراطي متفتح على العالم ومن خلال وسائل الإعلام. كما لن يهزم الإرهاب بدون دمقرطة الحياة السياسية وبدون إشراك أوسع للجماهير في معضلة الدفاع عن كيانهم وذلك بتمكين تنظمهم الذاتي للدفاع عن أنفسهم ومكاسبهم.
 
 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023