أثارت حالات الإقدام على قتل النفس بسبب الظلم تساؤلات فقهية عديدة، من حيث مشروعية هذا العمل ، ومصير صاحبه، وموقف المسلمين ممن يقدم على قتل نفسه مهما كانت الأسباب، وهذا الفعل ـ أعني قتل النفس ـ بدأ في تونس وامتد إلى عالمنا العربي والإسلامي في أكثر من حالة حسب ما شاع وذاع في الصحف ووسائل الإعلام .
والرجوع إلى رأي الفقيه في مثل هذه الحالات له ميزات وعيوب، فأما الميزات فمن أهمها أن هذه التسؤالات تؤكد على هوية الشعوب الإسلامية، وأنها مهما ابتعدت أو أُبعدت عن الدين فهي سرعان ما تعود إليه خاصة في الملمات، حيث يمثل لها الدين المرجعية العليا التي تستمد منها أحكام الدين والدنيا معا.
وأما العيوب فمن أهمها اختزال المسألة في الحكم الفقهي من حيث الحل والحرمة، ومن حيث إنه يجوز أولا يجوز دون التعمق في الحدث لمعرفة أسبابه ونتائجه، وتقديم العلاج المناسب له.
ولو وقف الفقيه سواء أكان فردا أو مؤسسة للفتوى عند الحكم الفقهي فقط دون النظر إلى السياق والتعمق في الأحدث لمعرفة الأسباب والنتائج لظلم الفقيه نفسه وأمته وظلم الفقه والدين معا.
ورحم الله عمر بن الخطاب لما جاءه أحد أصحابه بغلامه الذي سرق ليقطع يده كان ذكيا ألمعيا؛ فسأل السارق، ولما علم أنه سرق بسبب الجوع أسقط عنه الحد، وهدد صاحبه بالقطع إن عاد غلامه فسرق مرة أخرى لأنه ما سرق إلا بسبب بخل سيده.
فعمر ـ رضي الله عنه ـ لم يكن حرفيا ظاهريا بل كان فقيها، والفقه يعني الفهم العميق، خاصة في مجال الفتوى التي تختلف عن الحكم، فبينما يكون الحكم ثابتا لا يتغير تكون الفتوى متغيرة بتغير الزمان والمكان والأشخاص، وهي تمثل اجتهاد الفقيه في إنزال حكم الله تعالى على أفعال المكلفين.
من أجل ذلك نرى أن الفتاوى التي جرمت قتل النفس، وتوعدت المنتحر بالويل والثبور وعظائم الأمور في الدنيا والآخرة في مثل هذا الحادث تعتبر فتاوى منقوصة معيبة؛ حيث إنها أمعنت الجلد للضحية ولم تتعرض للجاني الحقيقي، وهي في الواقع فتاوى مسيسة تساعد في حالة الذل والرضا بالظلم والضيم على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي.
وسنحاول في هذه الأسطر أن نتناول الحدث من حيث أبعاده المختلفة وإن كنا لانغفل الجانب الفقهي.
ونبادر فنقول إن قتل النفس كبيرة من الكبائر باتفاق الأئمة القدامى والمحدثين، حيث أتت الآيات القرآنية الكريمة والآحاديث النبوية الشريفة دالة على ذلك .
يقول الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْوَلاَتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]
وروى النسائي بسنده عن أبي هريرة، عن النبي rقال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة كانت حديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
وعلى الرغم من هذا الوعيد الشديد فالفقهاء متفقون على أن قاتل نفسه يعامل معاملة المسلم من حيث غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين، وحمل الفقهاء الأحاديث التي تتحدث عن خلوده في النار على الزجر أو أنها تقع في حق المستحل للفعل، كما حملوا عدم صلاة النبي r على قاتل نفسه على التنفير من الفعل كما رفض أن يصلي على المدين .
ودليلهم في ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي rفقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ (قال: حصن كان لدوس في الجاهلية) فأبى ذلك النبي rللذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي rإلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة فمرض فجزع، فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه rفقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله rفقال رسول الله r:(اللهم وليديه فاغفر)
يقول النووي: في التعليق على هذا الحديث: فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يُقطَع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة، أي في حكم قوله تعالى: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (سورة النساء: 48).
يؤخذ من هذا أن المنتحر الذي لم يُعلَم استحلاله للانتحار مؤمن، فيُصلَّى عليه صلاة الجنازة.
لكن ورد نص يَمنَع الصلاة عليه، ففي مسلم عن جابر بن سمرة قال: أُتِيَ النبي rبرجل قَتَلَ نفْسه بمَشاقِصَ ـ سهام عريضة ـ فلم يُصَلِّ عليه. قال العلماء: هذا الحديث محمول على التنفير من الانتحار، كعدم صلاته الجنازة على من عليه دَيْن، وقد صلَّتِ الصحابة على المدِين بأمر النبي r وذلك للتنفير من الدَّيْن وليس لأنه كافر، وتُكرَه عند مالك الصلاة على المرجوم بحَدٍّ، والفسّاق، وذلك زجْرًا لهم ". ينظر صحيح مسلم شرح النووي.
هذا عن الحكم الفقهي ، وخلاصته أننا لا نحث الناس على قتل النفس بسبب الظلم أو غيره ونكل أمر من فعل ذلك إلى الله، ولانملك له إلا الدعاء كما دعا النبي rلهذا الصحابي ( اللهم ولديه فاغفر)
ونردد ما قاله فضيلة العلامة أستاذنا الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أن الأولى بالحرق هم الظالمون والمستبدون في الأرض.
فلو خرج هؤلاء الشباب في مظاهرات مطالبين بحقوقهم، وحقوق أمتهم، ثم قتلوا بأيدي الطغاة لصح فيهم الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك بسنده عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".
وهذا الذي قام به الشباب مهما كانت دوافعه نبيلة، وكانت نتائجة حميدة، يختلف عما قام به الشباب في فلسطين الحبيبة وغيرها من العمليات الاستشهادية التي تلقاها علماء الأمة الثقات بالقبول والحث عليها، وهو ما يعرف في تراثنا في الفقهي بالانغماس في العدو، وهو أمر محمود مطلوب إن علم صاحبه أنه سيحدث النكاية في أعداء الله حتى وإن تيقن من هلاك نفسه، وقد أفاض العلماء المعاصرون في الاستدلال على هذه المسألة ولا يسعنا هنا ذكر آرائهم .
من المسئول عما حدث من الشباب؟
ويبقى أمر هنا ما أخرناه إلا لأهميته، وهو من المسئول أو الجاني الحقيقي وراء هذا الحدث وما تبعه وما سيتبعه من قتل الشباب لنفسه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت .
أحسب أن المسئول الأول هم المستبدون الطغاة الظالمون الذين غرسوا اليأس والقنوط في نفوس أتباعهم فلم يثمر إلا الإحباط والإقدام على الانتحار والهروب من هذه المشكلات بعد أن تراكمت على صدورهم فلم يستطيعوا دفعها ولم يدفعها عنهم أحد.
روى عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مغيَّبة( أي غاب عنها زوجها ) كان يُدخل عليها( أي الرجال ) ، فأنكر ذلك ، فأرسل إليها ، فقيل لها : أجيبي عمر ، فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر قال : فبينا هي في الطريق فزعت فضربها الطلق فدخلت دارا ، فألقت ولدها ، فصاح الصبي صيحتين ، ثم مات ، فاستشار عمر أصحاب النبي r، فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء ، إنما أنت وال ومؤدب ، قال : وصمت علي فأقبل عليه ، فقال : ما تقول ؟ قال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم ، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ، أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها ، وألقت ولدها في سببك ، قال : فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش ، يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ .
فهذا أمير المؤمنين تسبب في قتل جنين، وهو يمارس عمله، ويقوم بواجبه على خير وجه دون أن يظلم أحدا أو يقصر في حق أحد، ولكن يلزمه علي رضي الله عنه بدفع ديته لأنه كان من الواجب عليه أن يتلطف في استدعائها .
والمسئول الثاني في هذا الحدث هم عموم الأمة الذين مكنوا للطغاة المتجبرين أن يحكموا في رقاب الناس ويعيثوا في الأرض فسادا دون أن يقفوا في وجوههم ولم يأخذوا على أيديهم كما روى البخاري بسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي rقال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا .
فعلى هذه الأمة أن تقوم بواجبها وعلى رأسها العلماء وأصحاب الرأي والنفوذ قبل أن نحرق أنفسنا بالنار في الدنيا ويعذبنا الله بها في الآخر ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِوَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُوَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]
نسأل الله أن يعصم دماء أمتنا ، ويعجل بالظالمين المستبدين .