منذ ابتليت بلادنا بحكم العسكر وهي تتلقى النكبات الواحدة تلو الأخرى، وعلى عكس ما ظنَّ الجميع من أن العسكر إذا حكموا عاد ذلك على الوطن بالحزم والفتوة وقوة الجيوش، فإن حكم العسكر مرتبط بالهزائم والمرارات والاستبداد على الشعب في الداخل والذلة والضعف والعمالة أمام العدو في الخارج. وتلك هي سيرتهم وطبعهم منذ حكموا وليس شيئا طارئا عليهم.
وفي هذه الأيام تمر علينا الذكرى الأولى للنكبة الأولى تحت حكم العسكر، وهي هزيمة 1956 التي ما زال البعض يظن أنها نصر بتأثير الإعلام العسكري المجرم، الذي تولى أمره مجموعة من أراذل الناس وأسافلهم لم يتورعوا أبدا عن الكذب على الناس وقلب النكبات إلى انتصارات، بل لم يتورعوا عن وضع قواعد جديدة للنصر والهزيمة: فنحن انتصرنا ما دام الزعيم بخير وإن دُمِّر الجيش وسلاحه وضاع البلاد والعباد.
هذه السطور القادمة هي موجز تاريخ هذه النكبة، بأوجز عبارة ممكنة.
(1)
لفهم هذه الحرب يجب التفريق بين أمرين: المواجهة مع إسرائيل، والمواجهة مع بريطانيا وفرنسا!
وفي ذلك الوقت كانت إسرائيل ما تزال في أول التأسيس، لم يمض على وجودها سوى ست سنوات، وهي محاصرة من الجنوب لا تملك الملاحة في البحر الأحمر ويرقد في سيناء وقطاع غزة جيش متفوق على جيشها بحساب العدد والعدة، وقد خرجت بريطانيا من مصر وصارت خطوط المواجهة مكشوفة، فكانت تعاني لتثبيت وجودها في محيط عربي يفور ببغضها ويملؤه الأمل بإزالتها، ويرى أن الطريق لهذا قريب واضح خصوصا مع بدء زوال الاحتلال الغربي للبلاد، ومن ثم لا يبقى إلا التعاون بين هذه البلاد فتزول إسرائيل! ولم تكن أمريكا ذاتها –حينئذ- قد حسمت أمرها بدعم إسرائيل كموقف استراتيجي على حساب العرب، بل كانت المحاولات الأمريكية لتثبيت إسرائيل وتبريد الوضع العربي تحاول إلزامها بوجود طريق بري آمن بين مصر والأردن يخترق صحراء النقب، وبطريق بري آمن بين مصر ولبنان، وبحق العرب في استعمال ميناء حيفا.. إلا أن إسرائيل نجحت من خلال الانتصارات المتتالية في فرض نفسها كأمر واقع وحسمت هذا التردد الأمريكي نحو أن يكون في صالحها على حساب العرب في هذه المنطقة.
أما بريطانيا وفرنسا فأولئك هم عجائز القرن الماضي ومخلفات الحرب العالمية الثانية، ورغم انتصارهم فيها نظريا إلا أن شمسهما إلى أفول مع بروز القوتين الكبريين: أمريكا والاتحاد السوفيتي، وهما يرثان الآن هذا الإرث الاستعماري، وفيما كانت العداوة واضحة وظاهرة بين الاتحاد السوفيتي والغرب الرأسمالي من جهة، فقد كان ثمة عداء نصف معلن ونصف خفي وهو العداء بين أمريكا من جهة وبين بريطانيا وفرنسا من الجهة الأخرى، وهو العداء الناجم عن محاولة وراثة الشرق الأوسط، وكانت أبرز مظاهر هذه العداوة هي الانقلابات والانقلابات المضادة في سوريا أواخر الأربعينيات. لكن الوضع الظاهر الذي لا شك فيه هو غروب شمس بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط تشيعهما اللعنات ومشاعر البغض العربية، وهي ذات المشاعر التي بدأت تتجه للتخلص من إسرائيل، المولود الاستعماري اللقيط!
يقول عبد الناصر –كما روى عنه بغدادي- "إن إسرائيل اليوم تفكر بدلا من المرة عشرات المرات قبل أن تقدم على مهاجمة مصر لعلمها بقوة جيشها ومدى استعداده، وهي الآن لن تقامر على كيانها" (أكتوبر 1955م) لكنه وفي ذات الوقت –كما روى هيكل في قصة السويس ص22- يقول لوفد من حزب العمال البريطاني أنه "لا يشغل نفسه بإسرائيل، وإنما يركز على التنمية الداخلية في مصر، وأنه لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية".
وفي الحقيقة فقد كانت هذه هي الضمانة الوحيدة لبقاء إسرائيل التي كان يمكن أن تزول في هذا التاريخ لو وجدت لدى حكام مصر الإرادة لذلك، إذ كل الظروف وقتها كانت مهيأة لهذا، وكانت إسرائيل تعرف هذا جيدا ولا يهمها سوى تثبيت وجودها وفرض نفسها بالقوة والدم لئلا يكون ثمة أمل في إزالتها، ومن هنا كان الموقف في أكتوبر (1955) -كما رواه تقرير استخباري بريطاني، ذكره بغدادي، وذكر أن مصر حصلت عليه- هو "ليس لدى مصر أية نية في الاعتداء على إسرائيل. وأنها ليست مستعدة إلى ذلك بخلاف موقف إسرائيل واستعدادها".
(2)
ما قبل المعركة
وضع موشى ديان خطة عسكرية قصد بها فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية (بالسيطرة على الشاطئ الغربي لخليج العقبة) وتصفية الجهاد في قطاع غزة، وكان من المقرر تنفيذها في نوفمبر 1955، لكن المحاولات الأمريكية الجارية للجمع بين عبد الناصر وبن جوريون جعلت هذا الأخير يوصي ديان بتأجيل الخطة حتى يناير 1956، ومن أجل هذا لم تستطع إسرائيل الحصول على أسلحة متطورة من أمريكا ولا بريطانيا فلم تجد سوى فرنسا التي عقدت معها صفقة الأسلحة المشهورة في يونيو 1956م، وبها امتلكت أول طائرات مقاتلة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، وفي فرنسا سعت إسرائيل لتسويق نيتها بشنّ عملية عسكرية لاحتلال الشاطئ الغربي لخليج العقبة لفتح الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية، وأجابت فرنسا بأنه يمكن لهم في هذه الحال أن يمدوا خط أنابيب من إيلات (على الخليج) إلى البحر المتوسط. وما إن عاد بن جوريون من فرنسا حتى قال لديان بأن يكون على استعداد للحرب.
أي أن إسرائيل كانت ستحارب في كل الأحوال، أكان التأميم أم لم يكن! فيما كان العسكر في مصر لا يفكرون في إسرائيل ويخفضون ميزانية الجيش!!
في 26 يوليو 1956 أعلن عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، وهو –مهما كان بغضنا لعبد الناصر- قرار بطولي ووطني وشجاع، وذلك لتمويل مشروع السد العالي من بعد ما رفض البنك الدولي تمويله، إلا أنه –كعادة قرارات العسكر- لم يكن قرارا محسوبا ولا مدروسا ولا كانت ثمة استعدادات لآثاره، وهذا ما يجعله في الحقيقة قرارا كارثيا لولا أن الخلافات الدولية الكبرى كانت في صالحنا آنذاك.
فلولا أن أمريكا كانت حاسمة في إزالة بريطانيا والحلول مكانها في الشرق الأوسط لكان هذا القرار هو السبب في عودة الاحتلال الإنجليزي إلى ديارنا مرة أخرى، ولئن كان الاحتلال هزم جيش عرابي قبل ثمانين سنة فإنه في هذه اللحظة لم يكن ليجد جيشا أمامه أصلا من فرط سوء السياسة والإدارة العسكرية، وكان أول اختبار حقيقي لهذه الإرادات الدولية في أزمة مرشدي القناة، إذ كان على مصر وقد أممت شركة القناة أن تثبت استطاعتها إدارة الملاحة فيها، بعد امتناع الإنجليز والفرنسيين عن العمل، وهنا تدخلت روسيا ويوغسلافيا واليونان بمساعدة مصر بالمرشدين كما وسمحت أمريكا لرعاياها بالعمل كمرشدين في القناة. ولم يكن هذا إلا نزعا لأي ذريعة بريطانية فرنسية لأي عمل عسكري تعودان به إلى الشرق الأوسط.
ولهذا يقول المعترضون على قرار التأميم بأن امتياز القناة كان سينتهي بعد 11 عاما، دون هذه المخاطرة الكبرى بإعادة الاحتلال مرة أخرى، فإن لم يكن ممكنا الانتظار فقد كان ممكنا الدخول مع الشركة في مفاوضات لاختصار المدة أو لزيادة المشاركة المصرية في إدارة القناة أو عوائدها، أما النقض المفاجئ لاتفاقية دولية فعملٌ لا تبرير له خصوصا وأن عبد الناصر وقع قبل شهر واحد اتفاقية مع الشركة نفسها تتضمن اعترافا بشرعية الشركة، ومن ثم كان بالإمكان مدَّ أجل المفاوضات كي يكون قطعها ذريعة للتأميم! ولو أن القرار حظي بأقل قدر من الدراسة لأمكن إنقاذ 4 مدمرات بحرية مصرية كانت راسية آنذاك على الشواطئ البريطانية والتي سارعت بريطانيا بالاستيلاء عليها، أو حتى إنقاذ شيء من الأموال التي جمدت في بريطانيا وأمريكا (112 مليون جنيه استرليني، 60 مليون دولار) عقيب قرار التأميم.
لقد جنّ جنون بريطانيا وهي ترى نفسها تقصى على هذا النحو، وكانت الصحافة الغربية تفور بالغضب والتحريض ضد مصر، حتى الدول التي لا سهم لها في شركة قناة السويس، واستعدت بريطانيا وفرنسا لعمل عسكري، وهنا تدخلت أمريكا بكل ثقلها السياسي لتبريد الموضوع بكسب الوقت أولا، فدعا وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس إلى مؤتمر في لندن يضم كافة الموقعين على اتفاقية 1888 بشأن القناة بما فيهم روسيا وإيران وباكستان (وهي الدول التي من شأنها أن تعرقل أي خطوة عسكرية ضد مصر)، ثم دعا بعده إلى اجتماع لـ "جمعية المنتفعين من القناة" وأصدرت هذه الأخيرة قرارا بتعيين لجنة دولية (من الدول المنتفعة) تتولى إدارة شركة القناة، وهو ما كان مستحيلا قبوله إذ كيف تؤمم شركة ليؤتى بلجنة دولية! وبعثت الجمعية منزس (رئيس وزراء استراليا) على رأس وفد لعبد الناصر، لكن الرئيس الأمريكي أيزنهاور كان يفشل مهمتها علنا في مؤتمر صحفي يصرح فيه بأنه لا استعمال للقوة لحل مشكلة القناة، ولما سئل: ماذا لو رفض عبد الناصر مقترحات منزس قال: يجب أن نفكر في اقتراحات أخرى. ثم حملت بريطانيا القضية إلى الأمم المتحدة التي أسفرت اجتماعاتها عن مشروع المبادئ الستة الذي قبلته كل الأطراف بنية عدم تنفيذه، فمصر قبلته لكسب الوقت باعتبار أن أي تأخير يقلل من فرص استعمال القوة بينما قبلته بريطانيا وفرنسا لأنهما سيتذرعان بالهجوم الإسرائيلي الذي غَيَّر الموقف. وكانت أمريكا تلقي بثقلها كله في المعركة السياسية هذه، وما إن تم التوصل إلى هذا المشروع حتى خرج أيزنهاور –وكان الوقت وقت انتخابات في أمريكا- ليزف إلى شعبه هذا الخبر السعيد الذي يقضي على فرص نشوب حرب في الشرق الأوسط، ليقطع بذلك الطريق على أي تحرك عسكري أنجلو فرنسي.
منذ منتصف أغسطس بدأت الاستعدادت العسكرية العلنية في بريطانيا وفرنسا، وجاءت الأخبار من أكثر من مصدر باستعداد عسكري حقيقي لغزو مصر، لكن عبد الناصر المطمئن إلى أمريكا لم يحفل بأي شيء واعتبرها مجرد حشود إعلامية، بل أصدر قرارا في 8 أغسطس بسحب الجيش من سيناء!!
(2)
أحداث الحرب
كان الخلاف الإسرائيلي – الأنجلو فرنسي (وقد اجتمعوا في مدينة سيفر الفرنسية لإبرام الحرب) محصورا في رغبة إسرائيل ألا تبدأ بالحرب وحدها خصوصا وسلاح الطيران المصري متفوق على الطيران الإسرائيلي آنذاك ويمكنه أن يدمر مدن إسرائيل الرئيسية بما فيها تل أبيب (وهذا ما رواه موشي ديان في مذكراته)، ولذلك يجب أن تبدأ بريطانيا بالحرب أو على الأقل بتدمير سلاح الطيران المصري. فيما كانت الرغبة البريطانية مختلفة لأنهم في ظل الأزمة السياسية مع أمريكا يريدون حربا تشتعل أولا لتكون لهم ذريعة التدخل لحماية القناة، ثم استقر الأمر على أن إسرائيل ستخاطر وتخوض المغامرة اعتمادا على عدم وجود رغبة مصرية في تصعيد الأمور وأنهم سيبتلعون الضربات الإسرائيلية في اليوم الأول –كما ابتلعوها سابقا- باعتبارها عمليات محدودة وليست حربا كبيرة، وبهذا تتوفر الذريعة لدخول فرنسا وبريطانيا الحرب ويقومون بتدمير سلاح الطيران المصري.
أي أن إسرائيل خاضت مغامرة وجودية فارقة في مصيرها النهائي معتمدة على عدم وجود رغبة مصرية في التصعيد!! وعلى أن مصر ستبتلع الضربات الأولى كالعادة!! وسيظل هذا الشلل في الطيران المصري حتى تتحرك بريطانيا وفرنسا لتدميره!! وهو ما كان!
ومهما أوتي المرء من حسن ظن بل من سذاجة فإنه لا يمكن استبعاد عنصر الجاسوسية، إذ أن الطيران المصري لم يتحرك لسبب هو الأغرب من نوعه، فقد قال محمد صدقي قائد سلاح الطيران (ولم يكن من الضباط الأحرار، وتعيينه في هذا المكان لغز يستدعي بحثا معمقا) لعبد الناصر بأنه لا يستطيع تطيير طائرات مصرية لأن مطار غرب القاهرة ليس فيه بنزين!! ولا تنس أن هذا قيل في أجواء الحرب التي تزخر بها كافة وسائل الإعلام منذ ثلاثة أشهر!
وهنا جرت قصة حرب من أغرب ما يكون:
بدأت إسرائيل بالهجوم الساعة الخامسة عصر يوم 29 أكتوبر 1956 ووصل الخبر إلى عبد الناصر عن طريق وكالات الأنباء فقد حملت إليه برقية من وكالة يونايتد برس، وكان ساعتها في احتفال عيد ميلاد ابنه عبد الحميد ومعه عبد الحكيم عامر، فهرعوا إلى مكتب عبد الناصر، ومن هناك حاول عامر الاتصال بالقيادة العسكرية في كوبري القبة والتي أفادت أنها لم تتلق شيئا من سيناء!! وتخيل إلى أي مدى يصل انهيار دولة يعرف فيها الإعلام الخبر قبل رئيس الدولة التي يجري احتلال أراضيها!!
صدرت أوامر عبد الحكيم عامر بتحرك القوات إلى سيناء مساء يوم 29 أكتوبر، وينقل عبد اللطيف البغدادي (صباح 30 أكتوبر) أن عبد الحكيم عامر كان يدير المعركة بعصبية واضحة ويدفع بالمزيد من القوات دون حاجة واضحة رغبة في تحقيق نصر سريع. إلا أن عبد الناصر أمر بسحب القوات من سيناء إلى ما خلف قناة السويس على الضفة الغربية، وهو ما يعني إخلاء سيناء تماما للإسرائيليين رغم أن النظرة البسيطة تقول أن الدفاع عن القناة لا يستلزم إخلاء سيناء لأنه من الممكن أن يكون الدفاع عنها من الضفة الشرقية والغربية معا، هذا بالإضافة إلى الآثار السلبية للانسحاب على معنويات الجنود. المصيبة الأخطر أن هذا الانسحاب تم بلا أي ترتيب ولا خطة، بل وبنص عبارة هيكل "كل رجل على مسؤوليته".. أي أنه قرار تدمير حقيقي للجيش المصري، الذي انساح هائما مشرذما مشتتا ليكون صيدا سهلا للطيران الإسرائيلي قتلا وأسرا.
لم يصل نبأ الانسحاب إلى كل الوحدات، أو وصل لبعضهم وامتنعوا عن تنفيذه، وهذه القوات التي ظلت تحارب استطاعت إيقاف التقدم الإسرائيلي على أكثر من جهة، وروى ديان في مذكراته مقاومة شرسة كادت تودي بحياته هو شخصيا، ولكن ما كان لهذه المقاومة أن تستمر في ظل الظروف المستحيلة من انهيار الجيش والسيطرة الإسرائيلية أرضا وجوا وانعدام المدد.
وإذا عدنا إلى ما قبل يومين، فسنجد أن الإنزال الإسرائيلي وفَّر الذريعة لبريطانيا –ومعها فرنسا- إذ ادعوا بأن هذه الحرب تؤثر على القناة، وأطلقوا إنذار للجانبين بوقف الحرب، وهو بطبيعة الحال إنذار إعلامي قبل مجيئ الجيوش، وكانت الخطوة الأولى هي الغارات التي دمرت سلاح الطيران المصري، وأصدر عبد الناصر قراره بمنع سلاح الطيران المصري من الاشتباك مع العدو، وفسَّر هيكل هذا بأن المعركة غير متكافئة.
وهنا يأتي الخلط غير المبرر، فالطيران المصري كان متفوقا على الطيران الإسرائيلي طبقا للتقدير الإنجليزي والإسرائيلي (كما في مذكرات ديان التي أفصحت عن نقاشات خطورة المغامرة الإسرائيلية بالبدء في الحرب وحدها) ولكنه لم يتحرك طوال الفترة التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي (بحجة المطارات الخالية من البنزين)، ثم ما إن جاءت بريطانيا حتى صدر الأمر بعدم الاشتباك لأن المعركة غير متكافئة. أي أنهم لم يخوضوا لا المعركة التي كانت لصالحنا ولا حتى التي كانت علينا، وهنا يبرر هيكل هذا بقوله: أن إنجلترا وفرنسا عدو عابر فيما يجب الاحتفاظ بالطيران للعدو المقيم: إسرائيل. وعلى الناحية الأخرى يجري ذات الخلط بالنسبة للقوات البرية، فيبرر قرار الانسحاب بأنه اتخذ لمواجهة إنجلترا وفرنسا (رغم أنهما العدو العابر) فيما أمر إسرائيل سهل (رغم أنها العدو المقيم).. وبهذا انسحبت كل الجيش المصري برا وجوا من المعركة، مرة لأجل العدو العابر ومرة لأجل العدو المقيم!!! (وضع ما شئت من علامات التعجب، أو علامات الخيانة)
وهكذا دمرت المطارات المصرية وطائراتها في يوم واحد (وظل محمد صدقي قائدا لسلاح الطيران حتى نكبة 1967)، وانسحبت الجيوش، واستسلمت الحاميات العسكرية في بورسعيد بعد ثلاث ساعات فقط، وتم لإسرائيل احتلال سيناء (وهي ضعف مساحة إسرائيل) في 36 ساعة فقط!
والمشهد المذهل أن الأمر لم يكن مفاجأة، بل إن نبأ الاستعداد الإسرائيلي وصل إلى مصر قبل عام –بشهادة بغدادي في تقرير المخابرات البريطانية- فيما كان نبأ الاستعدادت البريطانية الفرنسية مشهورا على كل الصحافة، وقد استطاعت السياسة الأمريكية تأخير الغزو ثلاثة أشهر (من أواخر يوليو إلى أواخر أكتوبر)!
لم يقاوم في هذه الحرب إلا الجنود الذين رفضوا –أو لم يصلهم- أمر الانسحاب ، مع مقاومة شعبية باسلة في بورسعيد والسويس، وقد كان من حسن حظ أهل بورسعيد وجود قطار أسلحة استطاعوا نهبه وخاضوا بما استطاعوا حرب شوارع قاسية وباسلة وإن لم تكن مؤثرة أمام الجيوش الكبرى وفي ظروف انهيار الجيش المصري.. أي أن الذين قاوموا –كالعادة- كانوا هم الشعب لا السلطة التي أذلت هذا الشعب وشربت دماءه بحجة حمايته.. بل إن السلطة كانت في موقف فاضح كعادتها.
ففي القاهرة كان يجري مشهد آخر من أغرب ما يمكن تصوره، فالقيادة العسكرية التي تحكم مصر والتي أذلت البلاد والعباد قد تحولت إلى مجموعة من الفئران المذعورة، وقد تضاربت الروايات في مذكرات بعضهم، إلا أن الثابت من مجموعها أن الحيرة والارتباك قد عم المشهد كله، خصوصا حينما وصل خبر كاذب بإنزال مظلي بريطاني في مصر الجديدة، ففكَّر عبد الناصر أول ما فكَّر في أولاده ونقلهم إلى القناطر الخيرية أو إلى منزل آخر في القاهرة، وفكر صلاح سالم في ترك مبنى القيادة والتوجه لمكان آخر غير معروف، ثم اقترح صلاح سالم أن يتناولوا سما فينتحروا قبل أن يؤخذوا أسرى، ونسب إيه اقتراح آخر بتسليم أنفسهم للسفارة البريطانية!!!
ولعل هذا المشهد هو ما يشرح لماذا سعت أمريكا للحفاظ عليهم في حكم مصر!
فعلى الصعيد الدولي ألقت أمريكا بثقلها لمنع العجائز (بريطانيا وفرنسا) من العودة إلى المشهد، فأعلن أيزنهاور أن أمريكا تقف إلى جوار مصر، واستخدم كل أوراق الضغط السياسي في الأمم المتحدة، فتقدمت أمريكا وروسيا بقرار لمجلس الأمن لوقف الحرب فاستعملت بريطانيا وفرنسا حق الفيتو، فصوتت أمريكا وروسيا على طلب تحويل الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ( حيث لا فيتو) وهناك تولت أمريكا دعم المشروع وترتيب الأغلبية له وهو ما كان، وكان نيكسون –نائب الرئيس الأمريكي أيزنهاور- يقود مظاهرة في أمريكا ضد بريطانيا! بالإضافة إلى أن أمريكا منعت تزويد بريطانيا وفرنسا بالنفط مما كانت له آثار اقتصادية فورية وقوية، وعملت على نزيف الجنيه الإسترليني الذي بدأت قيمته في الانهيار. وكان الأسطول السادس الأمريكي –في البحر المتوسط- قد نفذ تحركات أعاقت سير الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، فيما سماه بعض المؤرخين "تحرشا"! ثم وجه أيزنهاور إنذارا لبريطانيا وفرنسا بوقف إطلاق النار خلال 12 ساعة. ثم رفضت أمريكا بقاء القوات البريطانية فيما احتله من السويس وبورسعيد (كي لا تساوم به على أي مكسب) وأصرت على الانسحاب بلا قيد ولا شرط.
ثم أصدر الروس إنذارهم يوم 5 نوفمبر 1956م، وكان أول بصيص أمل للمصريين، على قلة قيمته، أما القيمة الحقيقية فقد كانت في الإنذار الأمريكي الذي جاء بعده بساعات واستجاب له الإنجليز والفرنسيون وهم صاغرون يوم 6 نوفمبر، وتحدد يوم 23 ديسمبر لجلاء القوات الإنجليزية والفرنسية عن منطقة القناة، وقد كان. أما إسرائيل فماطلت ولم تجل عن سيناء إلا في فبراير 1957.
(3)
نتائج الحرب
أما نحن فقد استفدنا التأميم الذي تحول إلى واقع، وتجنبنا عودة الاحتلال الإنجليزي (وإن كان الحكم العسكري على الحقيقة أسوأ عشرات المرات من الاحتلال الإنجليزي، وأنزل بمصر من المصائب والنكبات ما لم ينزله بها الاحتلال الإنجليزي)، وإن يكن هذا جرى لظروف وبقدرة خارجة عن إرادتنا.
وأما أمريكا فقد قطعت فعلا ذيل الأسد البريطاني وأثبتت له بالواقع أن أيامه قد ولَّت وأن هذه المنطقة قد صارت ملكا لنا.
وأما إسرائيل فهي صاحب حظ الأسد من هذه الحرب، فقد ثبتت ورسخت وجودها وجعلت إزالتها وهما بعد تدمير الجيش المصري وسلاحه السوفيتي، وامتلكت حرية الملاحة في خليج العقبة، وأثبتت أنها قادرة على احتلال مساحات جديدة من أكبر بلد عربية، وجعلت ما حصلت عليه عام 1948 غير قابل للمساومة، ولم تخرج من سيناء إلا وقد جاء البوليس الدولي حارسا لحدودها (وهي قوات دولية تراقب الوضع ولا يمكن سحبها إلا بقرار من الأمم المتحدة، أي أن مصر لو أرادت شن الحرب فسيعرف كل العالم بذلك، لأنها مضطرة لتقديم طلب لسحب البوليس الدولي)، مع تعهد بتجميد الأوضاع بينها وبين مصر لعشر سنوات، وقد أثَّر هذا كله على المقاومة في قطاع غزة وعلى قواعد المقاومة وامتداداتها في سيناء، وعاشت إسرائيل هدوءا كاملا على الجبهة المصرية حتى عام 1967م. وأفشلت بهذا عمليا مشروعا عربيا كان في طور الولادة سنذكره بعد قليل.
ولك أن تتخيل تأثير هذا كله على رأي عام (عربي وإسرائيلي وعالمي) يظن أن إسرائيل لا تطمح لأكثر من الهدوء والقبول بوجودها، في ظل محيط يرى أن إزالتها شيء ميسور يحتاج فقط لإحكام الترتيب والتدبير.
(4)
على هامش الحرب
قبيل الحرب كانت الحالة العربية في أفضل حالاتها، وقد نتج هذا عن دوافع وطنية عروبية على مستوى الأفراد في بلاط الأنظمة، فمما لا يعرفه كثيرون أنه وحتى وقت قريب كان رجال الأنظمة العربية الحاكمة لا ينتمون فقط لأوطانهم المحلية، بل كانت الأنظمة تضم في وزرائها ورؤساء حكوماتها عربا من كل الأوطان، وقد كانت تنتشر فيهم الولاءات العروبية والإسلامية والوطنية، وكان العقل الجمعي في هذا الوقت يتعامل مع أي قضية وطنية على أنها قضية عربية عامة تهم الجميع.
وقبيل الحرب نشأ تحالف مصري سعودي سوري يمني، وقبل الحرب بعام كان فيصل بن عبد العزيز يشكل مع جمال عبد الناصر لجنة عسكرية لتحديد الأسلحة المطلوب شرائها فتشتريها السعودية لدعم قواتها في حال نشوب أي حرب بين مصر وإسرائيل تنفيذا للاتفاقية العسكرية المصرية السودانية، بل بلغ الأمر ذروته بتشكيل قيادة عسكرية موحدة لجيوش مصر وسوريا والأردن يرأسها عبد الحكيم عامر. ولذا يتساءل كثير من المؤرخين حول سر قرار عبد الحكيم عامر الذي منع به جيشي سوريا والأردن من التحرك ضد إسرائيل، خصوصا وأن الأوضاع العسكرية والسياسية معا تجعل تدخل هذين الجيشين فرصة لا تقدر بثمن.
فمن الناحية العسكرية لم يكن فارق القوة كبيرا بين إسرائيل ومجموع الدول العربية، كما أن إسرائيل تحاول الاستيلاء على سيناء التي مساحتها ضعف مساحة إسرائيل، ولدى هذه الجيوش –ومن ورائها الشعوب، وحركات المقاومة الشعبية- من الشعور بالثأر لعار 1948 ما يؤمل منه أن انفتاح جبهتين على إسرائيل أشبه بانفتاح طوفانيْن من الغضب.
ومن الناحية السياسية فقد كان الأردن مرتبطا بحلف دفاعي مع العراق، وصل إلى وضع فرقة عسكرية عراقية على الحدود الأردنية للتدخل السريع حال تعرض الأردن لغزو إسرائيلي، وكان البريطانيون الذين يحاولون التمسك بأهداب أي نفوذ في المنطقة قد ارتبطوا مع العراق بحلف دفاعي يحملهم على الدخول معه في المعركة، ويورد ديان في مذكراته أن هذا وضع حرج معقد قد يسفر عن وضع غريب: أن يحاربوا مع بريطانيا في جبهة مصر وأن تضربهم بريطانيا على جبهة الأردن، ولذلك كان الحلم الإسرائيلي والبريطاني (والأمريكي من ورائهم طبعا) ألا تدخل الأردن الحرب، ولكن هذا كان في غاية الصعوبة إذ كانت الحكومة الأردنية والبرلمان –في ذلك الوقت- يتفجرون بالحمية العربية، ويوصمون بأنهم ناصريون وسعوديون، وقد طُرد قبل قليل رجال بريطانيا من الجيش الأردني، ولم يكن ملك الأردن في حال تسمح له بالامتناع عن هذا ولو أراد.
ومن هنا يرجح بعض المؤرخين -ومنهم أستاذنا جلال كشك رحمه الله- أن الصفقة كانت كالآتي: تطلب أمريكا من مصر منع دخول الجيشين السوري والأردني إلى المعركة، فيما تتكفل هي بسحب إسرائيل من المعركة، وهو ما تمَّ، وما أسفر عن مكاسب هائلة إسرائيلية وخسارة هائلة عربية.
(5)
إعلام العسكر
بدأت في هذه الحرب الماكينة الإعلامية الشيطانية للعسكر، تلك التي تقلب النكبات انتصارات، فقد عمل إعلام العسكر على الحديث عن طائرات يسقطها المصريون، وعن مظليين يقتلهم المصريون قبل الوصول إلى الأرض، ولم يكن هذا مقتصرا على مصر فقط بل كانت وزارة الحربية ترسل هذه المنشورات إلى ملاحقها العسكريين في السفارات لتوزيعها على الصحافة الأجنبية!!
وبعد وقف القتال صرح قائد سلاح الطيران صدقي بأن سلاح الطيران المصري لا يزال سليما وأنه مستعد للقضاء على كل من تسول له نفسه العدوان على مصر!!! وقد كان الطيران المصري في الحقيقة قد تحطم! وراح العسكر يوهمون الناس أن المقاومة الشعبية هي التي ردت أساطيل الغزاة على أعقابها، وسُوِّقت الحرب على أنها نصر عظيم مؤزر بل جعلها هيكل (كاهن معبد الاستبداد وأبرز شياطين الإعلام العسكري) "أكمل انتصار في تاريخ العرب الحديث"!!!! وكتب بعد ثلاثين عاما في الأهرام يحث الناس على الاحتفال بذكرى النصر ويأسف لأن البعض يعتبرها هزيمة!! وإن لم تستح فافعل ما شئت.
يقول أستاذنا جلال كشك رحمه الله: "إنها أشهر عملية تزوير في التاريخ، أن تظل أمة عشر سنوات تجهل أنها هزمت هزيمة فادحة، بل وتظل معتقدة أنها انتصرت، وأن احتلال اليهود لسيناء كان عبقرية عسكرية من جانبنا، إذ أمرنا بالانسحاب البارع والإفلات من طرفي الكماشة!! أو الفخ الذي كان مدبرا لتدمير الجيش المصري.. وأفسدنا المخطط ونجا الجيش!" (النكسة والغزو الفكري ص22).