رغم تأخرها زمنياً في سياق الأحداث في سوريا، وعدم مركزيتها في إطار الصراع الدائر فيها، إلا أن معركة كوباني أو عين العرب في سوريا بين "تنظيم الدولة" (داعش) و"مجموعات الحماية الكردية" تحظى بحصة الأسد من اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية إضافة إلى تصريحات صناع القرار والساسة، ويحتل الموقف التركي من المعركة الدائرة أولوية مهمة في مشهد الاهتمام بالمعركة بشكل يثير العديد من التساؤلات عن أسباب وسياقات الاهتمام والتركيز، ومآلات التفاعلات الحاصلة ميدانياً وسياسياً وإعلامياً.
لا بد في البداية من الإشارة إلى أهمية المنطقة استيراتيجياً بالنسبة إلى كل من التنظيم والمجموعات الكردية وتركيا. فكوباني – البلدة ذات الأغلبية الكردية و التي زاد عدد سكانها وفق إحصاءات غير رسمية أو موثقة من 200 ألف إلى أكثر من مليون إثر موجات النزوح بعد الثورة – تقع وسط المثلث الذي يسيطر عليه التنظيم (الرقة – جرابلس – تل أبيض)، وهي ذاتها إحدى ثلاث مناطق جغرافية اعتمد عليها حزب الاتحاد الكردي لإعلان منطقة حكم ذاتي في كانون ثاني/يناير المنصرم. بمعنى أن سقوطها بيد تنظيم الدولة سيعني ضعفاً للمشروع الكردي الطموح وتواصلاً جغرافياً للأراضي التي يسيطر عليها التنظيم.
أما تركيا، فلا تريد لمعبر حدودي آخر (بعد معابر كيليس وغازي عنتاب وأكتشا قلعة-أورفا) بينها وبين سوريا ان يقع في يد التنظيم. والأمر كذلك، فقد كان متوقعاً من أنقرة الانخراط مبكراً في هذه الحرب ضد "الدولة"، لمساعدة الأكراد وحماية حدودها، ولتخفيف الضغط الثنائي عليها داخلياً (أكراد تركيا) وخارجياً (التحالف الدولي).
فلماذا لم يحصل هذا حتى الآن؟؟!!
بين يدي هذه العجالة، نستطيع أن نلمح محددات الموقف التركي كالتالي:
أولاً: لا تتعامل تركيا ولا تريد أن تتعامل مع جزئية كوباني، بل تريد لها وللتحالف التعامل الشامل مع الملف السوري (والعراقي) كقضية متكاملة. فهي ترى أن تنظيم الدولة عبارة عن نتيجة سببها سياسات النظام السوري الذي أكدت على أهمية إسقاطه لحل المشكلة جذرياً، وسياسات المالكي الطائفية والتي يبدو أنها تعول على تجاوزها من خلال الحل السياسي الذي تم إبرامه.
ثانياً: كما كل الفواعل الأخرى على تخوم هذه الحرب، تريد تركيا استثمار لافتة "الحرب على الإرهاب" أو "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة" لتحقيق مصالحها، من خلال حماية حدودها، وتأمين عناصر أمنها القومي، وتحقيق حجر الزاوية في سياستها الخارجية فيما خص سوريا منذ سنوات وهو إسقاط النظام.
ثالثاً: لا تريد تركيا المبادرة إلى أي إجراء فعلي على الأرض (حرب برية أو غيرها) قبل حسم التفاوض مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة حول ثمن هذا التدخل، مقدمة شروطها الثلاثة: منطقة عازلة وحظر للطيران وتدريب المعارضة السورية. إذ تعرف أنقرة أكثر من أي طرف آخر أن بإمكانها فرض شروطها فقط قبل التدخل، أما بعده فإن تدحرج الأحداث قد لا يسمح لها بالتقاط الأنفاس أصلاً.
على طاولة التفاوض مع "حلفائها" تضع تركيا حدودها الطويلة مع كل من سوريا والعراق، وجيشها القوي القادر – وحده – على خوض مواجهات برية في سوريا (في ظل إحجام التحالف وضعف المعارضة السورية)، ومعلوماتها الاستخبارية، وحدودها المتماوجة بين الضبط والتراخي، وعلاقاتها المتينة مع أطياف المعارضة السورية والعشائر والمكوّنات العراقية.
بينما تعول الولايات المتحدة – في المقابل – على تطور الأحداث على الحدود، وسخونة الأوضاع في الداخل التركي، والضغط السياسي والإعلامي على أنقرة باتهامها بدعم الإرهاب لحملها على التدخل سريعاً وعميقاً في كوباني. حتى الآن، يبدو أن تركيا تملك زمام المبادرة، الأمر الذي حذا بواشنطن ولندن إلى الحديث عن المنطقة العازلة – المرفوضة سابقاً – باعتبارها "فكرة تستحق البحث"، بينما أعلنت باريس دعمها الصريح لها.
رابعاً: لا تريد تركيا أن يكون تدخلها في سوريا سبباً لصدام مباشر مع حلفاء النظام السوري، سيما إيران، التي بدأت تصريحاتها إزاء جارتها تنحى منحى تصعيدياً وتهديدياً. ولذلك، فإن تركيا تركز على أن يكون التدخل العسكري البري في سوريا قراراً للتحالف وليس لها وحدها، وأن يكون تنفيذه جماعياً رغم الدور الرائد المسلــَّم به لها، وأن يتم تفعيل البند الخامس في حلف الناتو للدفاع عنها حال تعرضها لأي هجوم.
خامساً: لا تنظر تركيا لقضية كوباني على أنها مسألة خارجية بل تمس الأوضاع الداخلية في تركيا بشكل مباشر، ربما لم تكن أبعاده واضحة لكثير من المراقبين قبل موجة العنف الأخيرة التي قام بها أكراد تركيا خلال أحداث الشغب التي رافقت مظاهرات نظموها لمطالبة تركيا بالتدخل، سقط خلالها حتى كتابة هذه السطور 23 قتيلاً.
فحزب الاتحاد الديمقراطي – التمظهر السوري لحزب العمال الكردستاني – كان قد تحالف بشكل أو بآخر مع نظام الأسد، ولم يشارك لا سياسياً ولا ميدانياً في الثورة ضده (في تناقض حتى مع موقف معظم الأكراد السوريين ورموزهم)، بل أعلن في كانون ثاني/يناير الماضي حكماً ذاتياً على المناطق التي يسيطر عليها، الأمر الذي كان ولا يزال يعني خطراً استيراتيجياً على المصالح التركية.
ذلك أن أنقرة استطاعت مؤخراً فقط إيقاف شلال الدم المستمر منذ أكثر من 30 عاماً وحصد أرواح أكثر من 30 ألف شخص، من خلال عملية السلام – المتازمة حالياً – مع حزب العمال الكردستاني. وفيما يبدو أن الأخير وجد في الثورة السورية وما نتج عنها من ضعف للحكومة المركزية فرصة سانحة لتقوية موقفه وزيادة أوراق قوته في مواجهة أنقرة من خلال سياسة فرض الأمر الواقع.
لا بد أن نلحظ هنا أيضاً تصريحات أقطاب مهمة في الحزب أو في حزب ديمقراطية الشعوب (ذراعه السياسي في تركيا) بأن سقوط كوباني سيعني أن تركيا تدعم تنظيم الدولة وهو ما سيؤدي إلى انهيار محادثات السلام معها. في هذا السياق، يبدو التحفظ التركي متفهماً، إذ تريد للحرب مع التنظيم أن تكون عنصر ضغط على حزب الاتحاد الديمقراطي للعودة عن سياساته الأحادية، سيما وأنها متخففة نوعاً ما من عنصر الضغط الإنساني بعد مغادرة الغالبية العظمى من سكان المدينة لها. ترجو تركيا من هذا الضغط دفع الحزب للقبول بشروطها الثلاثة التي سبق وأن طرحتها للتعامل معه سياسياً، وهي وقف التعاون مع نظام الأسد، والانضمام لائتلاف قوى الثورة السورية، ووقف الأنشطة المضرة بالأمن القومي التركي خاصة سياسات الأمر الواقع وعلى رأسها الحكم الذاتي.
سادساً: لكن كل هذا لا يعني أن تركيا ستبقى في موقف المتفرج، فهي أولاً لا تشعر بدفء العلاقة مع "التنظيم" وأحلامه المستقبلية في أراضيها رغم وصولها – فيما يبدو – إلى حل دبلوماسي لتحرير رهائنها، وهي أيضاً لا تريد لمزيد من المعابر الحدودية السقوط بيده، ولا تريد بطبيعة الحال أن تزداد الاتهامات لها بدعمه ورعايته. ولهذا كان الرد التركي واضحاً وقوياً لدى تعرض الحدود للقصف من قبل التنظيم، إضافة إلى لغة الخطاب الرسمي عالية السقف، التي درجت على اعتباره تنظيماً إرهابياً (بعد تحرير الرهائن) وتعهدت بالمشاركة في التحالف ضده لإنهائه، إذا ما توفرت الظروف المناسبة لذلك.
هكذا، وضمن هذه الظروف المتشابكة والمعقدة جداً، وبينما تدخل المنطقة مرحلة تاريخية متفجرة، لا تبدو تركيا متعجلة في اتخاذ خطوات قد لا تكون هناك رجعة عنها أو تعويض لها، ولا تريد أن تدخل حرباً ستكون الخاسرة فيها، سيما إن دخلتها وحدها. بل تريد أنقرة – والحال كذلك – تأجيل الاشتباك قدر الإمكان لإنضاج الظروف المساعدة، وتقوية الموقف ما أتيح ذلك، ومساومة التحالف على الإذعان لشروطها أو بعضها، واقتراب مختلف الأطراف نحو موقفها السياسي والميداني، فيما هي على أهبة الاستعداد والجاهزية قانونياً وسياسياً (بعد مذكرة التفويض من البرلمان) وميدانياً (بحشد القوات والقيام بالمناورات).
كما يمكن تقييم الموقف التركي من نافذة استيراتيجية مهمة تنظر من خلالها أنقرة. فلئن كانت الحرب المزمعة سكيناً ذا حدين، وكل أطراف المنطقة – وهي في مقدمتها – متضررة منها لا محالة، فلا أقل من تقليل الخسائر قدر الإمكان، سيما الاستيراتيجية منها، وحين نتكلم عن الخسائر الاستيراتيجية الكبيرة فنحن نتحدث عن دولة كردية ناشئة أو كيان "إسلامي" قوي لتنظيم الدولة على حدودها، وتبدو تركيا حتى الآن بسياسة الانتظار والترقب وضبط النفس التي تنتهجها متجنبة لخطر كليهما.