زارني بالمدينة التعليمية في الدوحة مؤخرا اثنان من الدبلوماسيين الأميركيين المهتمين بالتحولات السياسية في المنطقة العربية، وكان لنا حوار طويل حول قضايا الدين والدولة، والمسألة الطائفية، والربيع العربي، والعلاقات العربية الأميركية.
حاولت في اللقاء أن أفهم ضيفيّ الأميركيين أن المنطقة يتنازعها اليوم مذهبان متناقضان في العلاقة بأميركا رغم أن أتباع كل منهما تربطهم صلات إستراتيجية بالولايات المتحدة: المذهب الذي يحرص على أن تنسجم المصالح الأميركية مع مصالح الشعوب، وتتبنى هذا المذهب قطر وتركيا وجل القوى السياسية الساعية إلى الإصلاح والتغيير، بما فيها الحركات الإسلامية الديمقراطية.
والمذهب الذي يريد أن تبقى المصالح الأميركية منسجمة مع مصالح الحكام ضد الشعوب، وهو المذهب الذي تتبناه دول الثورة المضادة في العالم العربي، وقد تبنت إيران هذا المذهب مؤخرا في غمرة سعيها للتصالح مع أميركا بأي ثمن، وانسياقها مع غرور القوة وجهالات الطائفية.
أما المذهب الأول فقد انبنى على موقف أخلاقي مبدئي، وهو منطلق من فهم عميق للتحول الذي تمر به المنطقة منذ انبلاج فجر الربيع العربي، وقد وصف رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو الربيع العربي بأنه “تدفق طبيعي لحركة التاريخ”، وهذا توصيف دقيق يدرك صاحبه -بحق- أن ما نشهده اليوم تحول تاريخي لا مرد له، وأن أي تعويق أميركي له لن يزيد على رفع الثمن الذي تدفعه الشعوب من الدماء والأموال، وتعميق الفجوة بين أميركا والشعوب، مع خسارة أميركا وحلفائها المستبدين، ورجحان كفة الشعوب في نهاية المطاف.
أما المذهب الثاني فهو تشبث بالمعادلة العتيقة القائلة بلسان الحال لقادة القوى الدولية “اهتموا بنا ونحن سنقيكم شر شعوبنا، فهي شعوب ستظل تعاديكم، ومن الخير لكم ألا تنفك من قيدها، فنحن القيد وأنتم القادة”!! وهي معادلة جربها الغربيون وعملوا بمقتضاها منذ أن رحل استعمارهم العسكري، وحل محله استعمار سياسي تغذيه وتحميه أياد محلية، ولكن هذه المعادلة أصبحت اليوم جزءا من الماضي، ولا مكان لها في المستقبل.
فالحالة البركانية السائدة في العالم العربي لا يمكن احتواؤها ضمن معادلات إستراتيجية مهترئة، تجاوزها وعي الشعوب، واحترامها لذاتها، واستعدادها للتضحية في سبيل حريتها وكرامتها ومكانتها بين الأمم.
ثم ختمت حديثي مع ضيفيّ الأميركيين بأن على الولايات المتحدة أن تختار بين رؤية الماضي القائمة على التبعية، وهي رؤية تجاوزتها حركة التاريخ، وبين رؤية المستقبل القائمة على الندية، وهي توفر لها مصالحها على المدى البعيد، وتسهل عليها التصالح مع أمة العرب من المحيط إلى الخليج، ومع خمس البشرية الذي يدين بدين الإسلام.
ولست أدري بالطبع ما إن كانت الرسالة وصلت، ولا مدى تأثير ذينك الدبلوماسيَيْن الشابين في صياغة الخيارات الأميركية في البلدان العربية، لكن الحرب الأميركية المطلة على المنطقة -باسم تصفية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)- لا تبشر بأن الأميركيين قد غيّروا تفكيرهم حول المنطقة حتى الآن.
بل الذي يبدو جليا هو أن شيئا ما يسحب الأميركيين لغزو هذه المنطقة عسكريا كل عقد من الزمان تقريبا، فهذه الحرب المطلة علينا الآن في ختام عام 2014 ستكون الحرب الأميركية الثالثة في المنطقة خلال أقل من ربع قرن بعد غزو العراق الثاني عام 2003، وغزوه الأول عام 1991، وإذا تكررت الحادثة في الظروف نفسها فذلك يدل على أنها أصبحت ظاهرة وقاعدة مطردة كما يقول الفيزيائيون.
وعلى عكس الغزو الأميركي لليابان وألمانيا في ختام الحرب العالمية الثانية الذي انتهى ببناء معادلة جديدة دخلت بها الدولتان إلى عالم الدول الحرة المزدهرة، وتحررتا من الشوفينية القومية والوطنية التي أشعلت الحرب العالمية الثانية، وتحولتا إلى حليفين وثيقين لأميركا والغرب، فإن الحروب الأميركية في المنطقة العربية دائما ما تعمق الانسداد القائم، وترسخ الأسباب التي أدت إلى الحرب أصلا، ثم تنتهي بآثار عكسية تماما، فلا هي تحفظ المصالح الأميركية على المدى البعيد وتغني الأميركيين عن حروب جديدة، ولا هي تبني في المنطقة شيئا من التوازن القابل للحياة، وإنما تملؤها دمارا وخرابا، ودماء ودموعا.
فما هو السر يا ترى في هذه الفجوة الهائلة بين ثمرات الحروب الأميركية في المنطقة العربية، وثمرات حروبها في ألمانيا واليابان؟
إن السبب الذي لا ريب فيه هو أن حروب أميركا على ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية كانت حروبا ضد حكام ونخب سياسية، ولم تكن حروبا ضد شعوب.
لقد أخذت أميركا الشعبين الألماني والياباني في الاعتبار وهي تحارب حكامهما، فرغم الفظاعات الأميركية أثناء الحرب -وأبشعها استخدام السلاح النووي ضد هيروشيما وناكازاكي- فإن أميركا لم تسع إلى إذلال الشعبين الألماني والياباني بعد الهزيمة العسكرية، ولم تحرص على إبقائهما تحت نير الاستبداد أو الاحتلال، أو وضعهما في حالة يأس مشحونة بروح الانتقام، بل ساعدت كلا الشعبين اقتصاديا على إعادة إعمار بلديهما، والخروج بسرعة من محنة الحرب، كما ساعدتهما سياسيا على بناء نظام ديمقراطي، فتركت جيوشها الغازية للشعبين حرية اختيار قادتهما وتقرير مصيرهما السياسي.
أما حروب الولايات المتحدة في المنطقة العربية فهي حروب على الشعوب، لا على الحكام، ولذلك جاءت نتائجها معاكسة تماما لنتائج حربها على ألمانيا واليابان، فرغم أن صدام حسين انتهى معلقا بحبل المشنقة فإن الشعب العراقي هو الذي دفع ثمن الحربين الأميركيتين على العراق: حصارا اقتصاديا خانقا قتل نصف مليون طفل عراقي بريء مع بقاء الدكتاتور في منصبه بعد الغزو الأول، ثم حلا لجيش العراق وبثا للفوضى في ربوعه بعد الغزو الثاني، وتمزيقا للُحمة المجتمع العراقي، وتسليما لزمام أمره إلى قوى طائفية تحركها أحقاد تاريخية وذاكرة موتورة، ويهمها الانتقام والتشفي أكثر مما يهمها لم الشمل والبناء.
لقد شنقت أميركا من اضطهد الشيعة لتضع مكانه من استباح دماء السنة، وقتلت من قصف الأكراد بالكيميائي لتأتي بعده بمن يقصف السنة بالبراميل المتفجرة، ولك أن تتخيل لغاية المقارنة أن أميركا نصّبت على ألمانيا بعد هزيمتها دكتاتورا شوفينيا جديدا -مثل هتلر- لكنه يعمل لصالح السي آي أي، أو نصّبت على اليابان دكتاتورا عسكريا ياباني الجنسية لكنه يأتمر بأمر وزير الدفاع الأميركي- كما يأتمر بأمره السيسي اليوم- فكيف كانت ستكون ردة فعل الألمان واليابانيين؟ وهل ستكون الحرب العالمية الثانية انتهت حقا؟
إن حروب أميركا في البلاد العربية لا نهاية لها، لأنها حروب على الشعوب لا على الحكام، أما حروبها ضد ألمانيا واليابان فكانت حروبا على الحكام لا على الشعوب، ولذلك انتهت تلك الحرب بسلاسة، بل استحالت العداوة المزمنة بعدها صداقة راسخة.
وحينما بدأ الربيع العربي -وهو ثورة شعبية ذات مطالب داخلية صرفة- ومطامح سياسية عادلة لم يرفع أهلها شعارا يعادي أحدا غير الدكتاتوريين الممسكين بتلابيب الشعوب، بدأت أميركا إستراتيجية التعويق والاختراق فورا، فأيدت الثورات بالقول وحاربتها بالفعل، واستنفرت لهذه الحرب على حرية الشعوب العربية كل قوى الظلام المرتبطة بها في المنطقة، من الضابط العسكري المرتهن لها إلى الحاكم المستبد البَطِر، إلى الفقيه المتملق، إلى الدرويش الجبان، إلى الإعلامي المنافق.
وحتى حينما كانت الثورة على عسكري مشاغب ضد السياسات الأميركية -مثل القذافي- سعت أميركا إلى إحلال اللواء خليفة حفتر محله، وهو رجل يجاهر الإعلام الأميركي بعمله لصالح السي آي أي منذ أكثر من عقدين، وكأن دماء الليبيين التي بذلوها مدرارة مجرد بساط أحمر للعملاء وفقراء الضمائر.
ومثل ذلك يقال عن مصر التي حولت أميركا ثورتها إلى مجرد انتقال للسلطة من دكتاتوري شائخ موال لها، إلى سفاح شاب أكثر ولاء لها على حساب دماء المصريين وأموالهم، وآمالهم وأحلامهم، وكرامتهم الإنسانية، ومكانة دولتهم بين الأمم، ثم سعت أميركا إلى تحويل مسار الثورات العربية في الدول التي لا تملك فيها عميلا بديلا -مثل سوريا- إلى مصهرة جهنمية، وحرب أبدية لا غالب فيها ولا مغلوب، وها هي صنعاء تصبح آخر عواصم الربيع العربي سقوطا تحت مطارق حلفاء أميركا الذين أجهضوا الثورة اليمنية قبل اكتمال نموها الطبيعي، وألقوا بها خداجا في أيدي الحوثيين وإيران.
لقد كان الموقف الروسي من الربيع العربي -على بشاعته وجهالته- أسهل وقعا على الثورات العربية من الموقف الأميركي، فأميركا يخالف قولها فعلها، وظاهرها باطنها في التعامل مع ثورات الشعوب العربية، أما روسيا فقد عصمتها عنجهيتها من النفاق، فأعلنت موقفها المعادي لحرية الشعوب العربية على رؤوس الأشهاد.
وهكذا تواجه الشعوب العربية الثائرة على الظلم والاستبداد عدوا روسيا ظاهرا، وعدوا أميركيا باطنا، والعدو الباطن أخطر، لما له من امتداد ونفوذ، وقدرة على المناورة، واستعمال للأدوات المحلية، ولذلك استحال الاستثمار الأميركي في الجيش المصري دماء وأجسادا محترقة في ميدان رابعة ومسجدها، واغتيالا لحلم أحرار مصر وشبابها الفتي، كما استحالت علاقة خليفة حفتر بالسي آي أي إلى خراب في ليبيا، وسفك لدماء أبنائها، واستنزاف لثورتها وثروتها.
أما سوريا فقد اتبعت الولايات المتحدة فيها الرؤية الإسرائيلية التي عبر عنها المفكر الإستراتيجي الأميركي ذو الهوى الصهيوني ريتشارد لوتواك بصراحة لا لبس فيها، فقد نشر في 24 أغسطس/آب 2013 في صحيفة نيويورك تايمز مقالا بعنوان “في سوريا: ستخسر أميركا إذا كسب أي من الأطراف” يقول فيه “إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضر المصالح الأميركية”.
وختم المقال بنصيحة لصانع القرار الأميركي قال فيها “سلحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، وأوقفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة”.
ولن تخرج الحرب الأميركية المرتقبة على داعش عن هذه المعادلة الجهنمية، بل ستسعى إلى إكمال حلقة الثورة المضادة عبر دمشق، وإلى حرمان الشعب السوري من جني ثمار تضحياته الجسام في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية.
إن داعش ليس سوى عرض سطحي من أعراض مرض هيكلي عميق في المجتمعات العربية هو الاستبداد السياسي وظهيره الدولي، فجوهر المسألة ليس إمكانية تدمير جماعة تافهة مثل داعش قد تتلاشى في بضعة أيام تحت القصف الأميركي كما تلاشى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي تحت القصف الفرنسي، وإنما جوهر المسألة أن ترفع أميركا يدها عن المنطقة، وتكف عن العبث بمصائر شعوبها والوصاية على قرارها الإستراتيجي، وتقبل بعلاقات ندية معها بدلا من علاقات التبعية السائدة اليوم، وبذلك تستطيع المجتمعات العربية المتفجرة بالأمل والحيوية التخلص من الاستبداد، والتغلب على تناقضاتها الهيكلية المزمنة، وتحقيق شيء من الكرامة والمكانة لنفسها بين أمم الأرض.
ليس صحيحا أن أميركا لا تستطيع فعل شيء لترجيح كفة الحرية على الاستبداد في الدول العربية، فتنافس الدول العربية على الاكتتاب في الحملة الأميركية المرتقبة على داعش يكشف عن مدى الارتهان للخيارات الأميركية للمنطقة، وعمق الاختراق الإستراتيجي الأميركي لها.
والحق أن أميركا تستطيع أن تفعل الكثير في المنطقة، وهي تفعل الكثير بشكل مباشر وغير مباشر، لكنها اختارت الخيار الخطأ أخلاقيا وإستراتيجيا، واستمرت في العبث بمصائر الشعوب العربية والإسلامية، وضرب العرب والمسلمين في مكامن قوتهم المادية والمعنوية، وحرمانهم من الحرية والسلاح، وهما أهم دروع السيادة في الأمم المعاصرة.
ويعين أميركا في هذا المسار الجهنمي ساسة عرب لا يزالون يفكرون بمنطق قادة القوافل وأدلاء الاستعمار في القرن الـ19، فهم “مثل شرذمة من القراصنة وقطاع الطرق تتطفل على قوافل الاستعمار في بلادها تعرض خدماتها” كما وصفهم -بحق- الدكتور عزمي بشارة في مقاله الأخير بصحيفة “العربي الجديد”.
تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في العبث بمصائر شعوبنا من خلال التدخل العسكري كل عقد من الزمان، وتستطيع تعويق الربيع بضع سنين، وجعل شعوبنا تدفع ثمنا فادحا من الدماء والأموال، وتحقيق بعض المكاسب التكتيكية الظرفية الخداعة من كل ذلك، لكن سياساتها الانتقائية الخالية من أي حس أخلاقي أو إنساني ستكون لها نتائجها العكسية الموجعة عاجلا أو آجلا، فلن تسلم أميركا من ارتدادات البركان العربي، ولن تسلم يدها من لهب الحريق الذي تغذيه في بلداننا كل يوم.
وهي في النهاية لن تستطيع وقف ذلك “التدفق الطبيعي لحركة التاريخ” الذي وصفه أحمد داود أوغلو، ولا التحكم في الحالة البركانية التي وصلت إليها المجتمعات العربية.
أما قادة الثورة المضادة من الأعراب السائرين في فلك أميركا فسيظلون على جهالاتهم حتى يدفعوا ثمن الأنانية السياسية، وعدم النظر في العواقب، وقطيعة الأرحام الدينية والقومية والإنسانية، وحسن الظن بأميركا، وقد قادهم كل ذلك إلى الغدر بالشعبين المصري والليبي، وخذلان الشعبين السوري والعراقي، والتآمر على الشعب اليمني، وهو أقرب تلك الشعوب رحما ودارا.
في كتابه “تطلعات ومواقف: استكشاف العالم بعد 11 سبتمبر” يصف الصحفي الأميركي توماس فريدمان علاقة أميركا ببعض دول النفط العربية، فيقول: إننا نتعامل مع تلك الدول “باعتبارها محطة بنزين عملاقة يتم ضخها وحمايتها، دون أن نحسب لها أي حساب جدي باعتبارها مجتمعا بشريا”.
وهو توصيف دقيق، لكن الجديد اليوم هو أن أميركا بدأت تحرق محطة البنزين العملاقة بعد أن استغنت عنها بالنفط الصخري، وهي ستصبح أكبر منتج للنفط في العالم عام 2017، وكل ما تفعله أميركا اليوم هو المسارعة إلى استنزاف وتبديد وقود محطة البنزين العربية قبل أن يلتهمها الحريق.
أما ملوك الطوائف من أدلاء قوافل الاستعمار فهم لا يرون النار المحيطة بهم من كل جانب، ولن يروها إلا بعد أن تحل بمضاربهم، وتلتهم خيامهم، فهل ستستمر الشعوب العربية في السكوت على الضيم، أم ستأخذ على أيدي سفهائها الذين تتخذهم أميركا قفازا وهي تعبث بمصائر الشعوب؟!