عندما أصعد في الطائرة قاصداً السفر في اتجاهات متعددة، أحاول جاهداً أن أركز على مشهد واحد عند الإقلاع ومشهد واحد عند الهبوط .
المشهد الرئيس في حركة الكاميرا – إذا تعاملنا مع الأمر بلغة السيناريو السينمائي – سيكون مشهداً نهارياً خارجياً أو مشهداً ليلاً خارجياً ، تتحرك فيه الكاميرا المثبتة على نافذة الطائرة مع تسارع الطائرة وارتفاعها المتسارع ، لتكتشف في هذا المشهد البسيط معنى الحياة المعقد ، ومعنى السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع في الآن ذاته.
هل يمكن لك أن تتخيل مصيبة ألمّت بك وتضيفها في هذا المشهد ؟!
هل يا ترى الحزن الذي يصيبك يبقى على حاله لو وضعته في زاوية من زوايا حركة الكاميرا ؟!
إن الارتفاع بالطائرة فوق المدن العملاقة يعطيك صورة عن حجم الناس فيها ، الحجم الحقيقي لهم ، يتسابقون ، يتدافعون ، يقتل بعضهم بعضاً ، ويسرق بعضهم بعضاً ، ويتآمرون بمكر الليل والنهار ، وتظنهم قد ملؤوا الدنيا طولاً وعرضاً ، حتى إذا ارتفعت بك الطائرة نحو السماء ، وحلقت فوق الغيم ، بالكاد ترى شكل المدينة العملاقة التي تحتضنهم .
لكن من فوق ؛ يمكن لك أن ترسم المشهد ، وأن تجعل من نفسك حكماً ، لأنك ترى المدينة وما يحيط بها ، وترى التضاريس والجغرافيا بصورة جديدة ، وبشكل لم يسبق لك أن قمت برؤيته نظراً لحجم انشغالك في زوايا المدينة التي تعيش فيها سنوات من حياتك ، بهذا المشهد ، يمكن لك أن تفكر من جديد ، من أنا ومن هو ذاك ؟ ومن هم هؤلاء ؟ ولماذا وكيف ومتى وكم تكلفة هذا وذاك ؟! وأسئلة كثيرة ستملأ رأسك إذا التقطت الصورة من الأعلى .
في عالم السياسة ، إذا خرج متحدث ما وقال شيئاً ، تجد ألف محلل ومتابع ، وتنفق الأموال وتهدر الأوقات للنظر في المسائل التي نراها من الأعلى تافهة ، ولا تستحق مجرد النظر إليها ، ولكنك تعرف أن من يعيش بسقف منخفض سيبقى كل همه أن يحلل ويناقش ويتفاعل مع توافه الأمور لا مع عظائمها .
من الجميل أيضاً ، أنك تحدد البنايات الشاهقة وتعرف أن من قام بعملها هو من كبار المستثمرين ، وأن من رضي ببيت واحد صغير فلن تراه من طائرتك ، فالكبار تظهر أعمالهم ، والصغار يتوهون في التفاصيل .
هكذا يفعل الغرب عندما يخطط لنا ، عندما قسمونا وفق سايكس بيكو بعد أن قاموا باستعمار أرضنا ، وضعوا الحدود من الأعلى ، فمكثنا عقوداً نتصارع ونتحارب، ونتجسس على بعضنا، ونعمل فرادى ، ونفرض رأي القوي مؤقتاً على الضعيف مؤقتاً ، ونسينا أن المشهد من فوق يختلف تماماً ، يختلف بكيفية قراءته ، وكيفية تحليله ، وكيفية التعامل معه بعد أن تحط الطائرة بك من جديد لترى الصغار وقد ظنوا أنهم أسياد الأرض ومخلدون فيها للأبد !