“الرابع عشر من أغسطس؛ ذكرى المذبحة أو المحرقة، في هذا التاريخ الذي لا ينسى وسيظل محفورًا في أذهان الجميع، أبى الله إلا أن يثلج صدور قوم مؤمنين.
قطع الحراك الثوري شوطًا كبيرًا ووضع الأقدام على بداية تحول حقيقي لإدارة الحراك وتطويره ليمهد للانطلاق نحو المرحلة الثالثة من مراحل المقاومة، وهي “المواجهة الهجومية” أو “الفاعلة”.
لقد كان انطلاق “المقاومة الشعبية” وتطوير أساليبها وتوسعها الأفقي وتمثيلها الإعلامي بمتحدث وقيادة تنفصل عن القيادة السياسية أهم ملامح تلك الانطلاقة الجديدة والتي لها ما بعدها.
ففي إطار استراتيجيات المقاومة التي تحدثنا عنها في المقال السابق “الحراك الثوري ونقطة التحول” نتحدث:
أولا : استراتيجية “مهاجمة العدو” (Enemy centric) : فقد لقيت سلطة الانقلاب هذه المرة مواجهة شرسة ، مبدعة ، مشتته ، مربكة ، منتشرة أفقيا لا تحتاج إلى الحشود الضخمة مثل ذي قبل ، وهذا أظهر سلطة الانقلاب بصورة الضعيف العاجز على عكس ما يصور دائما ، والذي من شأنه مع الوقت أن يكسر حاجز الخوف لدى عموم الشعب ويدعوهم إلى الانحياز إلى المقاومة المعبرة عن طموحاتهم والتي تتقدمهم إلى النصر ، إلا أن هذه المقاومة تحتاج في المستقبل إلى تطوير أساليبها أكثر فأكثر ، وأن تمتلك استراتيجيات ردع فاعلة وقوية ضد القتل ، وضد الاعتداء على المرأة ، وضد الاعتقال ، وضد التعذيب ، وضد الإجراءات الاستبدادية التي تطال عموم الشعب ، وذلك يحتاج إلى خطط استراتيجية طويلة المدى معدة مسبقا بإحكام تنفذ في توقيتات مناسبة ردعا لحوادث الاعتداء والاعتقال والظلم العام ، حتى تحقق التوازن المطلوب فى الرعب ، والتوازن كذلك في التأثير والردع..
كما تحتاج “المقاومة الشعبية” أن تصبح ثقافة لدى عموم الشباب فتتمدد دائرتها الثابتة وقاعدتها المركزية مع كل حادثة أو ذكرى حتى تصل مع مرور الوقت إلى تعبئة واسعة وقوية قادرة على الحسم في الوقت المناسب.
ثانيا : استراتيجية “الحاضنة الشعبية” (Population centric) وهى تحتاج إلى تطوير كبير فلازالت الحالة العامة للحاضنة الشعبية هي الخوف ، وربما مساعدة المستبد في بعض الأماكن خوفا منه ، لذا لابد للمقاومة أن تشتبك مع حالة الظلم العام حتى تكون بحق مقاومة “شعبية” ، آن الأوان للجان “الزكاة” التي وقفت بجوار الشعب سنينا في معيشته أن تستبدل بلجان “مقاومة” تقف بجواره اليوم في مظلوميته ، ومظالم الشعب مع المستبد كثيرة لا تحصى فالقمع والظلم لا يقف عند حدود الآلة الأمنية ، بل يتعداها بكثير فكما يقول الكواكبي فى طبائع الاستبداد : “الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي ، إلى الفرّاش ، إلى كنّاس الشوارع ، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً ، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته ، وأنصار لدولته ، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم ، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه ، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته ، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلي زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه ، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة ، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة , وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً ، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة.”
ولأسهل على المقاومين إدراك هذه المسألة وتحويلها إلى برامج عملية أسوق مثالين للتقريب والإلهام وليس للقولبة ،
المثال الأول : حركة طالبان والتي نشأت في أفغانستان بعد الانتصار على الروس ، على إثر وقوع الفتنة بين المجاهدين ، وغياب الأمن وانتشار اللصوص ، وما أن تغلب طلبة العلم على اللصوص في قندهار حتى احتضنهم أهل قندهار وولوهم عليهم ، وما أن خلصت لهم قندهار حتى استدعاهم الشعب في كل أفغانستان وذاعت الفكرة وانضمت إليهم فصائل المجاهدين ، وذاع صيت طالبان التي أعادت الأمن إلى ربوع أفغانستان ، وشكلت حكومة ناجحة لمدة ست سنوات رغم الحصار العالم .
صحيح أنه سال إليها لعاب كلاب النفط بعد ذلك فاحتلوها وولوا كلبهم رئيسًا عليها – موظف بشركة نفط – إلا أن طالبان حققت نجاحا كبيرا في مقاومتها للاحتلال وحكومته العميلة ، وهذا يرجع بشكل كبير إلى تمسكها بتلك الاستراتيجية المتعلقة بنشأتها أصلا فلا زالت طالبان ترعى مظلومية الشعب وتعتمد على مجموعات المقاتلين الرحّالة بالتعاون مع مجموعات الخلايا القروية الثابتة فيقيمون في القرية مدّة تتراوح من بضعة أيّام إلى بضعة أسابيع ، يقومون خلالها بنشر الوعي والفتاوى الشرعية والسياسية بين أهل القرية كسلاح إعلامي قوى ، ويحكمون بالعدل بين الناس في نزاعاتهم ، ويلزمون الظالمين برد الحقوق لأصحابها ، ويعاقبون الفاسدين وعملاء الاحتلال ، فإذا زاد الحضور الأمني لقوّات الاحتلال ذابوا بين الناس في صورة مجموعات صغيرة ، ثمّ انطلقوا إلى الجبال أو إلى أوديةٍ أخرى ، هذا فضلا عن حرب العصابات التي تشنها على المحتل وحكومته العميلة حتى تضعهم في مأزق أمام الشعب وأمام إمكاناتهم التي لن تدوم لهم طويلا وإن غدا لناظره قريب.
المثال الثاني : وهو من الحالة المصرية ذاتها وهو نظام “الفتوات” والذي ارتبط في مصر بحالة الفراغ الأمني ، حيث ظهر في الثلاثين سنة الأخيرة من عصر السلاطين المماليك بين نهاية القرن الخامس عشر وبدايةالقرن السادس عشر، فلم تعد هناك دولة وظهرت تشكيلات عصابية كبيرة تضم ما بين 300 أو 400 رجل ينهبون الأسواق ، فبدأ الفتوات يكونون فرق للدفاع عن أحيائهم ، فيقومون بإغلاق البوابات في المساء وإنارة المصابيح والتفتيش عن الأغراب.
وشيئا فشيئا أصبح لكل حي أو مدينة في القاهرة والإسكندرية – وهي أكبر المحافظات وقتها – فتوة أو فتوات يحمون الأهالي ، ومع قدوم الحملة الفرنسية اشتدت مقاومة الفتوات لها فبدأ جنود الحملة في هدم أبواب الحارات وفتح القاهرة على بعضها للإضعاف من سلطات الفتوات ، ومع بداية الاحتلال الإنجليزي ، ترك المحتل الفتوات في حالهم حتى بدأ الإنجليز في بناء البوليس في مصر ، فبدأ النزاع بين الجانبين ، وكلما قوى البوليس ضعف أمر الفتوات حتى ثورة 1919 بعدها انضم الفتوات إلى حزب الوفد ، وانتهى عصر الفتوات تماما بعد ثورة 1952م ، لكن ظل ماثلا فى أذهان الشعب المصري ، تغذيه الدراما المصرية القديمة ، والدراما الهندية المحبوبة أحيانا أخرى ، حتى أنه لازال منتشرا بين صبيان الريف المصري تقليدا للفكرة واحتفاءًا بها ، ولعل هذا الموروث الثقافي والتاريخي كان سببا كبيرا في إيقاظ فكرة اللجان الشعبية إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير ونجاحها في بسط حالة الأمن ، ولعله كذلك من نقاط القوة التى يمكن توظيفها اليوم
.
أما الحراك الجماهيري السلمي فسيظل جذوة الثورة التي لا ينبغي أن تنطفئ ، وصورتها التي لا ينبغي أن تخفت ، وحاضنة “المقاومة الشعبية” الحانية التي لا ينبغي أن تتركها وحدها في الميدان.
هذا وستبقى أي مقاومة “مسلحة” غير مناسبة للحالة المصرية ، ومشوهة لها ، بل وطعنة لها من الخلف ينبغي أن نقاومها بكل ما أوتينا من قوة ، ليس جبنًا ولا ضعفًا ، ولكن حكمة ودراية بالواقع وبأصول المقاومة وتجارب الثورات.