لم تعد أهمية الإعلام في الحروب خافية على أحد، ولا هي مما يتخلف عليه اثنان في يومنا. وإذا كان للإعلام دوره في الصراعات والحروب عبر التاريخ، فإن تأثيره في الحروب المعاصرة أكبر بمراحل، وربما يتجاوز أحياناً دور الطائرة والدبابة.
ولقد رأينا مصدّقات ذلك في الغزو الأمريكي للعراق، وثورات الربيع العربي، ثم في الانقلاب العسكري في مصر، كما تكتنز دولة الاحتلال تاريخاً عريقاً في استخدام الإعلام لشرعنة احتلالها وتقديم سرديتها على حساب الحقائق، حتى استحقت بحق أن تكون دولة الإعلام الكاذب والأساطير المزعومة.
هكذا كانت حقوقنا في كثير من الاحيان عرضة للضياع بسبب ضعفنا الإعلامي وعدم قدرتنا على مواجهة مزاعم الاحتلال، إلا أن حرب "العصف المأكول" حملت جديداً على هذا الصعيد، حين أبدت المقاومة أداءً إعلامياً ناضجاً، محترفاً ومتميزاً، فاق – لأول مرة ربما – أداء العدو.
ولأن حماس وذراعها العسكري كتائب القسام هي رائدة العمل المقاوم في هذه الحرب، فربما يجدر بنا اتخاذها نموذجاً لشرح عوامل هذا النجاح الإعلامي، الذي يمكن اختصاره في عدة عناوين سريعة:
1- التوازي: قدمت المقاومة نشاطاً إعلامياً متساوقاً مع الفعل الميداني، غير متقدم عنه ولا متأخر، مستمداً قوة تأثيره من أداء الميدان، ومضيفاً إلى الأخير قوة بأدائه المتميز.
2- الرؤية: كان واضحاً منذ البداية أن الماكينة الإعلامية للمقاومة تعمل وفق رؤية واضحة ومحددة ومعدة سلفاً، وبعيدة كل البعد عن الارتجال وردات الفعل، وربما نبرز هنا أحد معالمها وهو تعمد الاستثمار السياسي بمهاجمة الحكومة الصهيونية، ونتنياهو بالاسم والصفة والتركيز على فشله المتكرر.
3- التناغم: تبادل الجناحان السياسي والعسكري للمقاومة، حماس والقسام تحديداً، الأدوار وتقاسما المهام في عدة محطات مهمة من هذه الحرب، خصوصاً في مفاوضات التهدئة، حيث برز الجناح السياسي حريصاً على العمل السياسي ومحاولة وقف إطلاق النار وفق شروط المقاومة والشعب، بينما قدم الجناح العسكري رسائل القدرة والثقة ورفع سقف المطالب، ضغطاً على العدو ودعماً للقيادة السياسية في المفاوضات.
4- التوثيق: قدم الإعلام المقاوم خدمة جليلة للجناح العسكري بتوثيقه وعرضه عدداً كبيراً من العمليات الحربية خلال العدوان كان لها أكبر الأثر في مسار الحرب على جبهتي العدو والمقاومة (والشعب ضمناً)، سيما فيما خص عملية "نحال عوز" التي اعتبرها العديد من الإعلاميين والمحللين الصهاينة ضربة موجعة للجيش الصهيوني ومعنوياته، جنداً وقيادة، فضلاً عن تأثيرها الكبير على الداخل الصهيوني.
5- التوقيت: كجزء من الرؤية والخطة الموضوعة، لفتت الأنظار رسائل إعلامية عديدة ظهرت فيها عبقرية اختيار التوقيت، مثل الإعلان عن أسر الجندي الصهيوني، والذي أتى بعد يوم عصيب على الفلسطينيين في غزة إثر مجزرة الشجاعية، لرفع المعنويات، بينما لم يتم تعجيل الإعلان مباشرة لتأمين ظروف الأسر وأيضاً لعدم التغطية على جريمة العدو في تلك المذبحة.
6- المصداقية: التزمت المقاومة بتقديم الرواية الصحيحة بل والدقيقة لكل ما يجري رغم ظروف الحرب، خاصة فيما يتعلق بالشهداء والجرحى وخسائر العدو، فلم تجنح للمبالغات، واكتسبت مصداقية عالية لدى الشعب الفلسطيني، لكن الإنجاز الأكبر الذي اجترحته كان اكتساب مصداقية عالية لدى العدو الصهيوني الذي بات يتابعها ويصدّقها أكثر من قيادته السياسية.
7- الجبهة الداخلية للعدو: اختصت المقاومة الجبهة الداخلية للعدو بجزء لا يستهان به من رسائلها، وعكست من خلال ذلك معرفة متقنة بتفاصيل الداخل الصهيوني، واحترافية عالية، واستخدام اللغة العبرية في أحيان كثيرة (وصلت لدرجة ترجمة أناشيد معينة للعبرية، وتصوير "فيديو كليب" لها)، وساهمت مصداقيتها العالية ورسائلها المؤثرة في متابعة إعلام وجمهور الاحتلال لرموز المقاومة السياسية والعسكرية.
8- الاحترافية: وهذه هي كلمة السر في أداء المقاومة الإعلامي الذي تأكد أنه يصدر عن منظومة ناضجة ومدركة لأدواتها، من حيث إتقان لغة الجسد، ومضمون وشكل الخطاب، والإتيان بالجديد في كل خطاب، وتقديم الأنسب للكلام (الضيف لإعلان الموقف، وأبي عبيدة لتقديم الرسالة الإعلامية)، والترميز الشديد، والتوقيتات، وثبات سردية المقاومة للحرب، ومتابعة الإعلام الصهيوني، وتوجيه الرسائل المؤثرة لجمهور الاحتلال، وتنويع الخطاب الإعلامي بين الإعلام التقليدي والجديد ورسائل الهاتف، والحرب التقنية كاختراق مواقع الانترنت وبث الفنوات التلفزيونية، إلى غيرها من العناوين العديدة التي تختصر حكاية المقاومة مع الإعلام في هذه الحرب بكلمة واحدة، هي الاحترافية.
9- التكامل: ففيما اختص الإعلام الحربي بتفاصيل الأعمال العسكرية، وتعمق إعلام المقاومة بتقديم تفاصيل الأحداث في الشارع الغزي، كان هناك تعاون مع وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، وحرص على الظهور على شاشاتها، لتقديم الموقف والمعلومة والتحليل، لتتكامل كل وسائل الإعلام هذه ضمن خطة واحدة ورؤية موحدة كإعلام مناصر للقضية الفلسطينية، والحق أن الكثير من وسائل الإعلام غير المحسوبة على المقاومة بشكل مباشر أدت دوراً تشكر عليه، سيما قناة الجزيرة الإخبارية.
10- الرأي العام العالمي: لم تقتصر رسائل المقاومة وأداؤها الإعلامي على الداخل الفلسطيني والعدو الصهيوني، بل كان هناك اهتمام بالتواصل مع البعد العربي – الإسلامي والرأي العام العالمي، فكان أن أهدت المقاومة أول رشقة للصواريخ لـ "شهداء الجيش المصري في حرب العاشر من رمضان"، وكان أن التزمت المقاومة بسردية وأداء الاكتفاء (حتى الآن) باستهداف الجنود الصهاينة دون المدنيين رغم القدرة على ذلك، والتركيز على عدم بدء الحرب من طرفها واضطرارها للدفاع عن شعبها، إضافة إلى تقديم البعد الإنساني للحرب بصورته المؤثرة والصادقة.
تلك عشرة كاملة، ولو تعمقنا أكثر لوجدنا المزيد. لكنها كافية لتعطي صورة واضحة أن الأداء الإعلامي للمقاومة لم يأت اعتباطياً أو بضربة حظ، ولا كان مجرد ردة فعل على أحداث الميدان أو إعلام العدو، بل ضمن رؤية شاملة تلحظ أهمية الإعلام، وتدرك تأثيره، وتتقن استعمال أدواته، وتبدع في استثمار فنونه، بشفافية ومهنية ومصداقية اضطرت العدو – حكومة وشعباً وإعلاماً – للاعتراف بها وبقدراتها وصدقها.
هذا الأمر أعطى المقاومة بالتاكيد القدرة الكبيرة على التأثير على الداخل الصهيوني تحديداً وهو تفصيل له أثره العميق في تحديد وجهة ومدى ونتائج الحرب بكل تأكيد، وغاية ما نستطيع قوله بكل موضوعية وتجرد أنه رغم استمرار الحرب الميدانية – العسكرية، إلا أن الحرب الإعلامية قد أسفرت منذ فترة طويلة عن انتصار المقاومة على دولة الاحتلال بالضربة القاضية.