حركات المقاومة على مدار التاريخ تمر بأربعة مراحل رئيسية حتى تحقق أهدافها : إفشال استئصالها ثم المواجهة الدفاعية ثم تطوير المواجهة إلى هجومية ثم إرغام المجتمع الدولي لقبولها والاعتراف بها.
لكن الوصول إلى هذا الهدف والانتقال عبر هذه المراحل الأربعة الرئيسية له استراتيجيات وطرق مختلفة للعمل كلها تأخذ من أو تدور حول استراتيجيتين أساسيتين: استراتيجية “العزل” واستراتيجية “العدو” أو الدمج بينهما.
استراتيجية “العزل” وهي تعني عزل المستبد عن المجتمع حتى يسهل الإجهاز عليه وهزيمته، وبالتالي فهي تركز على المجتمع ومخاطبته والتترس به والسعي إلى تحييده أو انحيازه للمقاومة، وتعتمد في ذلك على استنزاف المستبد وإفشال وعوده وفضحه، وهي ما أطلق عليها دافيد كلكالن في دراسته “حرب العصابات الحادثة” :
(Population centric) أو التركيز على كسب المجتمع ومثالها ما قامت به طالبان في أفغانستان من إفشال أي تقدم لحكومة كرزاي حتى فقد شرعيته كعميل للأمريكان أولا ثم فقدها كسلطة ضعيفة غير قادرة على تلبية مطالب الشعب ووعودها له ، ثم تقوم طالبان بنفسها بتلبية احتياجات الشعب الأمنية التي عجز هو عنها عن طريق مجموعات المجاهدين الدوارة (10000-15000مجاهد متفرغ) بالتعاون مع مجموعات المجاهدين المستقرة في مدن وقرى أفغانستان (20000-25000مجاهد مقيم) مع تجنب السيطرة على أي منطقة وتحمل مسئولية السلطة فيها رغم سهولة ذلك، كاستراتيجية لاستنزاف سلطة المحتل وإسقاطها جملة واحدة وهم بذلك خالفوا الفيتناميين فى سيطرتهم على المناطق التي كانت تقع تحت أيديهم، وجمعوا بين نموذجي التمرد المسلح لفيتنام ونموذج جيفارا في الاستنزاف الكامل للسلطة المستبدة والانتظار حتى إسقاطها جملة واحدة، لقد حققت طالبان نجاحا كبيرا في أفغانستان وأصبح استمرار الأمريكان في أفغانستان يمثل مأزقا كبيرا لهم والسؤال المطروح لدى الأمريكان الآن هو كم ستستطيع حكومة كرزاي أن تصمد أمام طالبان بعد خروج الأمريكان المستهدف عام 2016م ؟!
استراتيجية “العدو” وتعني التركيز على مواجهة العدو فقط، وهي ما يسميها كلكالن(Enemy centric) وهذه الإستراتيجية يتبناها تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وتقوم استراتيجيتهم على مفهوم التمرد العالمي ضد الأمريكان والغرب وتنفذها ب “التمركز” في مناطق عدم الاستقرار في العالم الإسلامي ثم الدخول في “مواجهة” مع الأمريكان يحدث على إثرها تثوير لأهل البلد المُضيف والدخول معهم فى المواجهة فتحدث “عدوى” المواجهة ، والأمريكان يواجهون هذه الإستراتيجية بأحد استراتيجيتين: أما استراتيجية التركيز على المجتمع وتلبية احتياجاته وتدريب قوات البلد على مواجهة القاعدة نيابة عنهم(Population centric) ومن ثم يعزلهم ويضعفهم، أو يلجأ إلى استراتيجية (الحرب القذرة) بإحياء الخلافات المذهبية وضرب الحركات المسلحة ببعضها لإضعافها وتشويهها أمام المجتمع وبالتالي عزلها وسهولة القضاء عليها، وهذا ما يُلجأ القاعدة أحيانا للجوء إلى حلول غير منطقية وغير مفهومة؛ حينما تعجز عن تنفيذ استراتيجيتها أو مواجهة استراتيجية الأمريكان مثل “الاستفزاز” كما فعلت في أحداث 11 سبتمبر، أو إرغام المجتمع المُضيف بالقوة لتوفير خطوط الإمداد لها في حربها مع الأمريكان، كما فعلت فى العراق فى الموصل أو إعلانها “خلافة إسلامية” كما فعلت داعش ليسهل ذلك عليها عملية “التمركز” ونشر”العدوى” .
كذلك كانت هذه الإستراتيجية هي التي اعتمدت عليها “جبهة الإنقاذ” في الجزائر في التسعينات، وهو ما أدى في النهاية إلى عزلها وإضعافها واستسلامها في النهاية، واعتمد الانقلاب العسكري المدعوم أمريكيا وغربيا على استراتيجية “العزل” و”الحرب القذرة” في قمع التمرد المسلح!!
أما “غزة” فهي نموذج ثالث دمج بين الاستراتيجيتين بنجاح كبير ساعده في ذلك كثير من العوامل، فهو نجح بشكل كبير في حل مشاكل المجتمع الذي ساعده “الحسم” في أن ينعزل به ويعمل معه بعيدا عن أى سلطة مستبدة ومن ثم توفر له حاضنة شعبية منيعة، ونجح بشكل مبهر كذلك في التركيز مع العدو وتطوير المواجهة معه وهزيمته ساعده على ذلك كون العدو محتلا يتطلب مواجهة مسلحة مشروعة، بالإضافة للبيئة والجغرافيا، وتحدى الحصار.
كذلك يعتبر نموذج الثورة الإيرانية والثورة في جنوب إفريقيا نماذج نجاح دمجت بين الإستراتيجيتين وإن اختلفت بعد ذلك الوسائل.
إذا نظرنا إلى الثورة المصرية نجد أننا على مدار عام كامل بعد الانقلاب اعتمدنا على استراتيجية “العدو” (Enemy centric) بطبيعة أن التصور السائد كان هو الضغط بكل قوة لإسقاط الانقلاب قبل أن يثبت أقدامه – الانقلاب يترنح !!- ولم نأخذ من الإستراتيجية الأخرى سوى فضح الانقلاب عبر إعلام الثورة المتاح، والانقلاب واجه ذلك باستراتيجية “القمع” التي لا تعرف سواها الانقلابات العسكرية، أما وإن الانقلاب بعد عام كامل لم يترنح وأننا بصدد معركة طويلة الأمد فإننا إذا بحاجة إلى تغيير استراتيجيتنا لنتغلب على حالة الركود النسبي التي يعانى منها الحراك الآن، ونستطيع أن ننتقل من المرحلة الثانية “الدفاع” أو “رد الفعل” إلى المرحلة الثالثة “الهجوم” أو “الفعل”.
أرى أن النموذج الأمثل هو الدمج فاعتماد استراتيجية “العزل” بالرجوع إلى المجتمع فى مشكلاته الأمنية والاستبدادية – وليس في مشكلاته المعيشية التي تصب بطبيعة الحال في صالح المستبد وتأخر سقوطه – وإفشال الانقلاب في تحقيق أي نجاحات ، مع الاستمرار في فضحه وتطوير الجهاز الإعلامي للثورة.
ثم دمج استراتيجية “العدو” بتطوير وسائل اللاعنف المعتمدة في الحالة المصرية وتركيزها وجعلها أكثر دقة وكفاءة وتوجيها، والاعتماد على الخطط الاستراتيجية طويلة المدى التي تحقق نجاحات كبيرة ونقلات نوعية في كسر الآلة الأمنية (العصف المأكول كمثال)، وإضفاء القوة على الحراك الثوري، ومن ثم يرتفع الحاضن الشعبي للحراك، وترتفع الروح المعنوية الثورية.