لعل أكثر الحدود الإسلامية ذيوعا في الفترة الأخيرة، حد الحرابة في دولة لا تعتمد الشريعة الإسلامية في قانونها الجنائي أصلا.
فمؤخرا، صدق مفتي مصر، الدكتور شوقي علام على إعدام عشرة من رافضي الانقلاب، المتهمين بقطع طريق قليوب، والتهمة تنفيذ حد الحرابة.
والمفتي إذ يصدر رأيه، إنما يستند إلى نصوص الشريعة الإسلامية، واجتهادات المذاهب الفقهية، فهو يتحدث عن حكم الدين، وليس عن حكم القانون، ولا عن رأيه الشخصي أو السياسي، وبالفعل اعتمد تقرير المفتي على مجموعة من آي القرآن، واستعراض المذاهب الفقهية، التي انتهى منها إلى ثبوت حد الحرابة على المتهمين في القضية!
من ذلك ما جاء في تقرير المفتي : " الحرابة تحدث من فرد واحد أو من جماعة ويشترط أبوحنيفة وأحمد أن يكون مع الفاعل أو الفاعلين سلاح أو ما في حكم السلاح ويكتفي مالك وأبي حنيفة وأحمد من باشر الفعل أو تسبب فيه. فمن باشر أخذ المال أو القتل فهو محارب ومن أعان علي ذلك فهو محارب. وأن عقوبة المحارب نزل فيها قول الحق سبحانه وتعالي "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" وأن عقوبتها مقدرة كونها حقا لله تعالي لا يملك أحد التنازل عنها أو التصالح فيه"
والسؤال: هل فعلا هذا رأي المذاهب الأربعة كلها أو بعضها كما ذكر التقرير في هذه القضية؟ أم أن هذا الرأي خاص بالمفتي، وتم عزوه إلى المذاهب الفقهية خطأ أو كذبا وافتراء؟ وهل هذا فعلا هو حد الحرابة كما فهمه العلماء أم أن هذا فهم خاص بالمفتي؟
تعنى هذه الورقة بالإجابة عن هذا السؤال تحديدا؛ نظرا لأن التقرير عزا ما جاء به إلى نصوص الشريعة وإلى من سماهم من المذاهب الأربعة، وهي معالجة فقهية في هذا الإطار.
بداية المشهد:
لقد خرج العسكر والشرطة ومعهما طائفة من الشعب على الدكتور محمد مرسي الرئيس الشرعي المنتخب، خروجا مسلحا، فاختطفوه، وأسقطوه، وعينوا واحدا من الخارجين معهم مكانه، وأسقطوا معه الدستور ومجلس الشورى، واستبدلوا به دستورا آخر، ومن ثم أجريت انتخابات رئاسية، أعلنوا فيها فوز رئيس جديد، هو ذلك الرجل الذي تولى الخروج على الدكتور مرسي.
هذا التوصيف للمشهد، لا يختلف عليه اثنان، سواء أسميناه ثورة أم انقلابا، فهو توصيف للواقع دون أي تحيزات، وقد يحب بعض من يعتبرون ما حدث ثورة أن يضيفوا إلى هذا التوصيف أن عدد الخارجين على الرئيس كان عشرين مليونا مثلا أو ثلاثين مليونا أو أكثر؛ ولأننا لا نحب أن نختلف عند هذا المشهد، فسنعتبر ذلك صحيحا، لكنه يبقى بالضرورة عدد، رفض إسقاط الرئيس الشرعي، وتمسك به، وناضل- ولا يزال- في سبيل عودته…وإلى هنا لا يمكن لأحد أن يزايد على هذا التوصيف.
القضية المعروضة في المحكمة، مؤداها أن أنصار الرئيس مرسي، تجاوزوا النضال السلمي إلى قطع طريق قليوب، والتظاهر المسلح المنادي بعودة الرئيس، وأضافوا إلى ذلك إرهاب الطرف الآخر المؤيد لإسقاط الرئيس مرسي، بل ربما توعدوهم بالقتل، وقتلوا بالفعل واحدا أو اثنين.
وهذه هي القضية كما أرسلت إلى المفتي، وسأعتبر أن هذا قد حدث فعلا( قطع الطريق+ تظاهر مسلح+ إرهاب الطرف الآخر+ قتال+ قتل واحد أو اثنين منهم) وأسأل من من الفقهاء الأربعة وصف هذه الحالة بأنها " حرابة" كما وصفها المفتي!!
الإجابة : لا أحد منهم يصفها بأنها حرابة، ومن ادعى ذلك عليهم ، فهو أحد رجلين : رجل لم يفهم كلامهم على وضوحه، أو رجل يفتري عليهم الكذب الصراح!
أمارة ذلك أن الفقهاء يعتبرون الحرابة جريمة جنائية، لا جريمة سياسية، فمن قطع طريق المسلمين، وقاتلهم وقتلهم، فإن الفقهاء ينظرون إلى سبب ذلك، فإن كان السبب جنائيا، أي بقصد السرقة والاغتصاب مثلا فهذه حرابة عندهم، وإن كان السبب سياسيا فهذا عندهم يدرس في باب " البغي" وهو يفترق تماما عن الحرابة في منطلقاته وآثاره.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 131)
"فالفرق بين الحرابة والبغي هو أن البغي يستلزم وجود تأويل، أما الحرابة فالغرض منها الإفساد في الأرض."
وجاء في كتاب المغني لابن قدامة :
والخارجون عن قبضة الإمام، أصناف أربعة:
أحدها، قوم امتنعوا من طاعته، وخرجوا عن قبضته بغير تأويل، فهؤلاء قطاع طريق، ساعون في الأرض بالفساد، يأتي حكمهم في باب مفرد.[1]
……………….
الصنف الرابع: قوم من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة.[2]
فالتنازع على السلطة، ونشوء تحارب واقتتال عليها بين فريقين،هو ما ذكره الله في كتابه :" : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات/9]
فإحدى الطائفتين سماها القرآن : الفئة الباغية، والثانية تعرف فقها بأهل العدل، وإن أسوأ ما يمكن أن يوصف به المتهمون بقطع طريق قليوب أنهم بغاة ، لا قطاع طرق.
فأي الطائفتين هي الباغية في المشهد المصري حسبما فهمه أصحاب المذاهب الأربعة من الآية السابقة، وما شاكلها من نصوص أخرى؟ هل هي الطائفة التي تبغي تثبيت الرئيس القائم المنتخب، أم الطائفة التي تبغي عزله وتنصيب رئيس جديد؟
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية :
البغاة هم : الخارجون من المسلمين عن طاعة الإمام الحق بتأويل، ولهم شوكة.
ويعتبر بمنزلة الخروج: الامتناع من أداء الحق الواجب الذي يطلبه الإمام، كالزكاة.
ويطلق على من سوى البغاة اسم (أهل العدل) وهم الثابتون على موالاة الإمام. [3]
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أعطى إماما صفقة يده ، وثمرة فؤاده ، فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه ، فاضربوا عنق الآخر[4] {.
دلت الآية والحديث فيما دلت على حكم مجمع عليه بين الفقهاء ، هو أن الإمام الحق، الذي انعقدت إمامته بطريق شرعي- والرئيس محمد مرسي كذلك لا ينازع في هذا أحد- إذا خرج عليه مجموعة مسلحة، وجب على هذا الإمام أن يقاتلهم ، ووجب على المسلمين أن يقاتلوهم معه ، يقول ابن قدامة "… ….، فهؤلاء البغاة ، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم ، وواجب على الناس معونة إمامهم ، في قتال البغاة ؛ لما ذكرنا في أول الباب ؛ ولأنهم لو تركوا معونته ، لقهره أهل البغي ، وظهر الفساد في الأرض "[5] وجاء في الموسوعة الفقهية : " البغي حرام ، والبغاة آثمون ، ولكن ليس البغي خروجا عن الإيمان ؛ لأن الله سمى البغاة مؤمنين في قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . . . } إلى أن قال : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ، ويحل قتالهم ، ويجب على الناس معونة الإمام في قتالهم . ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد . ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله"[6]
فجاء المفتي، وقلب الموازين، وسمى المتمسكين بالإمام أو الرئيس المنتخب محاربين، حتى إنه ضن عليهم بوصف البغي، وللمفتي أن يجتهد في دين الله حسبما شاء، والله حسيبه، لكن ليس له أن يتقول على المذاهب الأربعة، فينسب إليهم مالم يقولوه خطأ أو زورا!
البحث عن شبهة للمفتي:
وتطوعا من عندنا، نحاول أن نبحث عن شبهة، عساه يكون قد وقع فيها، وهنا يمكن أن يقال : إن العسكر قد تغلب وانقضى الأمر ، وصارت الطاعة له واجبة، ومقاومته حتى بالطرق السلمية لإسقاطه محرمة، وهذا هو منطق حزب النور، الذي برر به سيره في ركاب العسكر.
والجواب أن هذا غير مسلم حتى عند من يرون التسليم للمتغلب، فهذا ما ذكره ابن قدامة مما يتعلق بإمامة المتغلب" ولو خرج رجل على الإمام ، فقهره ، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا بطاعته ، وبايعوه ، صار إماما يحرم قتاله ، والخروج عليه ؛ فإن عبد الملك بن مروان ، خرج على ابن الزبير ، فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بايعوه طوعا وكرها ، فصار إماما يحرم الخروج عليه ؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين ، وإراقة دمائهم ، وذهاب أموالهم "[7] والمقصود أن هذا التوصيف الذي ذكره ابن قدامة غير مسلم في المشهد المصري ؛فها هو الشارع منقسم، ومعنى هذا أننا لسنا في حالة التأييد الطوعي والكرهي الذي يتحدث عنه ابن قدامة ، فها هي الحشود اليومية ، تهدر في سماء مصر كل ليلة بأنها ضد هذا النظام ، حتى الأطفال في المدارس.
وبمثل مقالة ابن قدامة الحنبلي، قال المالكية :
"(الباغية فرقة) أي طائفة من المسلمين (خالفت الإمام) الذي ثبتت إمامته باتفاق الناس عليه ويزيد بن معاوية لم تثبت إمامته؛ لأن أهل الحجاز لم يسلموا له الإمامة لظلمه ونائب الإمام مثله[8].
فها هم المالكية لم يعتبروا يزيد بن معاوية إماما بسبب أن طائفة امتنعت من التسليم بإمامته، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع العسكر، ومن ثم السيسي من بعده، ففي مصر طوائف لم تسلم لهم، بغض النظر عن العدد. فأهل الحجاز الذين امتنعوا عن انتخاب يزيد أقل بكثير ممن بايعه، ومع ذلك اعتبر المالكية هذا العدد القليل سببا مانعا من انعقاد الإمامة.
وبأظهر من ذلك قال الشافعية الذين يقولون بإمامة المتغلب، فقد جاء في كتب الشافعية في بيان الطرق التي تنعقد بها الرياسة :
(الطريق الثالث: أن يغلب عليها ذو شوكة، ولو كان غير أهل لها كأن كان فاسقا أو جاهلا ،فتنعقد للمصلح، وإن كان عاصيا بفعله.
وكذا تنعقد لمن قهره عليها فينعزل هو، بخلاف ما لو قهر عليها من انعقدت إمامته ببيعة أو عهد فلا تنعقد له، ولا ينعزل المقهور.[9]
أي أن الشافعية يرون أن من قهر إماما وتولى مكانه، تثبت إمامته مع معصيته إلا في حالة واحدة، هي أن يكون الإمام المراد قهره، قد وصل إلى الرياسة عن طريق الانتخاب، فمثل هذا الرئيس- والدكتور مرسي كذلك- لا تنعقد لمن قهره رئاسة، وإن تم قهره فيبقى هو الرئيس الشرعي. فعلى ذلك تنعقد إمامة المتغلب فيما لو قهر متغلبا مثله لا منتخبا!
[1] – وهو المقصودون بحد الحرابة.
، وينظر : القرطبي 6 / 316، وروح المعاني 26 / 150، ومعالم التنزيل بهامش ابن كثير 8 / 15، وحاشية ابن عابدين 3 / 308، الهداية والفتح 4 / 408، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 293، والشرح الصغير 4 / 426، ومواهب الجليل 6 / 278، والتاج والإكليل 6 / 276، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي 4 / 170، وكشاف القناع 6 / 158.
[3] – الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 130)
[4] – صحيح مسلم (3/ 1472)
[5] – وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 131)
[6] – (8/ 131
[7] – المغني لابن قدامة (8/ 526)
[8] – الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 298
[9] – " أسنى المطالب في شرح روض الطالب (4/ 110)