كان مما فُجِعنا به في مصر حين قامت ثورة يناير ثم حين جاء الانقلاب العسكري المشؤوم، أن رأينا بعض المنتسبين إلى العلم والفقه والدعوة وقد اختاروا السكوت والعزلة والاختفاء من المشهد، وبعض منهم وقف في صف مبارك ثم في صف السيسي، وقد أفصح موقفهم هذا عن خلل خطير في النظر والتصور نشأ عنه الخلل الأكبر في الفتاوى والمواقف.
ولسنا نتحدث هنا عمن باعوا دينهم بدنيا غيرهم ورضوا بالمال الحرام نظير الموقف الحرام، بل نتحدث عن أناس نحسبهم من المخلصين، لم يستفيدوا من هذه المواقف ولم يكونوا قبل ذلك ولا بعده من المرضي عنهم، وإنما كان حظهم من العلم بالواقع ضحلا ضئيلا فكان تنزيلهم للأحكام الشرعية على هذا الواقع فاحش الخطأ والخطورة.
إن حرب غزة تمثل فرصة لهؤلاء كي يفقهوا أن الانقلاب العسكري لم يكن مجرد صراع على الكرسي ولا هو ينتمي إلى الصراع السياسي ولا كان استجابة لسخط الناس أو دفعا لأخطاء مرسي، بل هو على الحقيقة حلقة في مسلسل الحرب على الإسلام وأهله، ودفاعا عن بقاء مصر في فلك الصهاينة والأمريكان.
ولئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، منذ أول إغلاق القنوات الدينية وحتى منع الدعاء والصلاة على النبي وما بينهما من مقاتل ومحارق ومذابح وإغلاق مساجد وإبادة لأهل الدين.. نقول: لئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، إلا أن الحرب على غزة هي الحدث الأكبر والأكثر إيلاما والأوضح آثارا.
وهذه الحرب تثبت الفارق الكبير بين أن يكون في موقع الرئيس رجل كمرسي أو آخر كالسيسي، فالأمر ليس مجرد استبدال شخص بشخص، بل هو استبدال منهج بمنهج، عقيدة بعقيدة، نظام بنظام، بكل ما يترتب على هذا من آثار تشمل جميع الأمة في سائر أقطارها.
وهنا يجب أن يعتدل ميزان المصالح والمفاسد الذي استند إليه هؤلاء المنتسبون إلى الفقه فلم يقفوا بكل قواهم خلف مرسي ونظامه أو ضد السيسي ونظامه، ومنهم زاد على هذا أن سكت واعتزل واختفى، ومنهم من مارس التخذيل والتثبيط ونَظَّر وفَصَّل في عبثية مقاومة الانقلاب ودعا إلى التسليم له حفظا للنفس وحقنا للدماء، وما درى هذا أن هذا الاستسلام هو ذاته الذي سيسيل الدماء أنهارا عبر سنين الاستبداد، دون أن يجرؤ أحد على أن يعترض!
انظروا إلى غزة!
آخر ما يستطيع الصهيوني أن يناله منهم أن يقصف بالطائرات، لكنه لا يستطيع أن يستدعي أحدا من الغزاويين فيعتقله أو يعذبه أو يأخذ امرأة منهم فيذلها أو يعبث بعرضها أو ينتهك حرمتها، بينما انظر إلى سائر الشعوب التي تحكمها الأنظمة المستبدة، كيف تنتهك حرماتهم وتهون أعراض رجالهم ونسائهم ويذوقون الذل مُرًّا حنظلا مُرَكزًّا ليلا ونهارا، بل وترى المستبدين يعملون لصالح الاحتلال ويوفرون عليه بذل المجهود، فيعذبون ويحققون ويحبسون أبناء شعبهم لأجل خدمته.
انظروا إلى غزة العزة.. ثم انظروا إلى الضفة التي هي جزء مصغر من حال بلادنا العربية المنكوبة بالمستبدين!
يجب أن يتصحح ميزان المصالح والمفاسد لدى المنتسبين إلى الفقه والعلم، فيعلموا أنه لا يستوي حكم حماس وحكم فتح، كما لا يستوي حكم مرسي وحكم السيسي، لا يستوي حكم الصالحين وحكم المجرمين، والصراع بين هذين الطرفين ليس صراعا حول كراسي ولا مناصب، بل هو صراع حول الأمة ومستقبلها وعزتها وكرامتها.
فلو صدقوا فإن الفرصة لم تفت بعد، ذلك أن نصرة أهل غزة بالنسبة لنا نحن في مصر هي كسر هذا الانقلاب الذي هو أشد عليهم من الصهاينة أنفسهم، وكسر هذا الانقلاب هو نصرة للأمة في كل مكان.
الآن حماس تستطيع مخاطبة العالم مستندة إلى قوتها على الأرض أولا ثم إلى الموقف التركي والقطري، فما بالك لو كان أضيف إليهما الموقف المصري بما له من ثقل وقوة سياسية؟ وأهم من القوة السياسية ما للموقف المصري من قوة على الأرض فعلا بحكم الجغرافيا، وكيف تستطيع المقاومة أن تطور من نفسها ماديا لو كان في مصر حكم مخلص راشد، فضلا عن السند السياسي.
نحن نقول بوضوح إن جهاد أهل مصر ونصرتهم للمسلمين يتركز في كسر هذا الانقلاب.. بل أقول: إن مجرد كسر هذا الانقلاب حتى لو من غير استعادة الشرعية هو في حد ذاته نصر كبير لأهل غزة، لأن وجود الفوضى أفضل من حكم استبدادي شرس يوظف كل إمكانيات الدولة والناس لصالح العدو وضد أهل غزة.