ولو علم أباه بما يقترح ابنه لتبرأ منه، ونأى بنفسه عنه، واستغفر الله على ما خلف للأمة من ولد عاق لوالديه وللأمة بأسرها، فما كان أبوه رحمه الله ليقبل بأن تصبح جريمة سرقة بيت أمي في بئر السبع وأرض أبي في الخليل، وكذا بيوت وأراضي الملايين من أبناء فلسطين، كل فلسطين، أمراً مشروعاً أو مقبولاً بحجة الرغبة في وقف نزيف الدم. حينما صدح الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله بما في ضمير الأمة، ودعى إلى الجهاد في سبيل الله لتحرير المسجد الأقصى، وتساءل “ماذا نخشى؟ هل نخشى الموت”، ودعى الله ألا يتوفاه إلا شهيداً في سبيله، لربما قال أحدهم حينها: “نحلم بقيادات سعودية أكثر حذراً”.
كم هو مؤسف ومحزن أن يخرج علينا ولد من أولاد ذلك العملاق فيصل، الذي يصدق فيه قول الله تعالى: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً”، ليقول لنا: “نحلم بقيادات فلسطينية أكثر حذراً” قاصداً قيادة حركة حماس التي اتهمها بما يتهمه به الصهاينة ومن يتواطأ، بل ويتماهي، معهم في محيط فلسطين العربي والإسلامي، محملاً إياهم جريرة سفك دماء الفلسطينيين، زاعماً في مقاله الأخير في الشرق الأوسط “إن معرفة أن أهل غزة سيتعرضون لسفك الدماء الوحشي والمعاناة، كان يجب أن يحد من غطرسة حماس” ومتهماً حركة حماس باللامبالاة، بحجة “أن تماهي حماس مع الموقفين التركي والقطري هو أيضاً سوء تقدير آخر” متهماً قيادات هذين البلدين بأنها “تبدي اهتماماً أكبر للكيفية التي يمكن أن تحرم بها مصر من دورها القيادي الشرعي بدلاً من منع نتنياهو من إنزال الموت والدمار على أهل غزة”.
إن المقال الذي يحمل اسم تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودي السابق والسفير السابق في لندن وواشنطن ليذكرنا بقول الله لنوح عليه السلام “إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح”. فأين هذا الولد من أبيه، الذي قضى نحبه لا لشيء إلا لموقفه الشجاع والرائد من قضية فلسطين والأقصى، والذي اتخذ أعداء الأمة الخارجيين والداخليين قراراً بتصفيته لأنه لم يكن زعيماً " حذراً"، ولم يكن يقبل الدنية لنفسه ولا لأمته ولا لدينه، ولم يكن على الشاكلة التي خرج علينا ابنه بعد عقود يتمناها للشعب الفلسطيني، أي لم يكن زعيماً جباناً رعديداً، يخشى أن يقتل في سبيل الله.
إن الشفقة التي يبديها تركي الفيصل، والدموع التي يذرفها مقاله الأخير على أهل فلسطين من ضحايا العدوان الإسرائيلي، وحتى تنديده بجرائم الاحتلال في الضفة والقطاع في بداية المقال، يكشف زيفها وسوء طويتها تحميله الضحية المسؤولية عن الجرائم التي يندد بها، ويؤكد بما لا مجال معه للشك أن كل ما قيل ويقال عن تحالف سعودي مصري إسرائيلي بهدف القضاء على حركة حماس وتجريد قطاع غزة من كل وسائل الدفاع عن النفس، إنما هو صحيح، ويصف بصدق واقعاً مؤلماً ومحزناً ومؤسفاً.
في الوقت الذي يلوم تركي الفيصل استمرار الصراع على رفض الإسرائيليين لمبادرة عمه التي باتت تعرف بالمبادرة العربية، والتي طالما سخر منها الصهاينة بل وضربوا بها عرض الحائط رغم أنها تعدهم بإضفاء شرعية دائمة وتاريخية على احتلالهم لفلسطين وعلى تشريدهم لأهلها وتنكيلهم بهم على مدى ما يقرب من سبعين عاماً، تراه يجدد الدعوة إلى قبول المبادرة كمخرج من الأزمة وكحل للمشكلة المستعصية. ولو علم أبوه بما يقترح ابنه لتبرأ منه، ونأى بنفسه عنه، واستغفر الله على ما خلف للأمة من ولد عاق لوالديه وللأمة بأسرها، فما كان أبوه رحمه الله ليقبل بأن تصبح جريمة سرقة بيت أمي في بئر السبع وأرض أبي في الخليل، وكذا بيوت وأراضي الملايين من أبناء فلسطين ،كل فلسطين، أمراً مشروعاً أو مقبولاً بحجة الرغبة في وقف نزيف الدم.
يعيب تركي الفيصل على المقاومة، وعلى قيادة حماس بالذات، ما عابه المنافقون على الفئة المؤمنة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لعله لم يقرأ قول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير. ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون. ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون.”
ثم يعيب تركي الفيصل على المقاومة في فلسطين أن صواريخها قاصرة عن تحقيق تفوق ميداني، ويقول “فالتفاوت الكبير بين عدد الإسرائيليين المقتولين جراء صواريخ حماس وعدد الفلسطينيين الذين يبادون من قبل قوة النيران الإسرائيلية المتفوقة والغاشمة كاف لإثبات ذلك”. ورغم أن الصواريخ تمكنت لأول مرة في تاريخ الصراع من فرض حصار جوي على الكيان الصهيوني ناهيك عن شل حركة الاقتصاد والصناعة والسياحة على مدى أيام الحرب، إلا أن أي قصور في وسائل الدفاع المشروع عن النفس لدى الفلسطينيين إنما هو مسؤولية تركي الفيصل وأمثاله من المسؤولين العرب الذين طالما حاصروا أهل فلسطين وحالوا بينهم وبين أن يطوروا وسائل دفاعهم، وحتى وسائل هجومهم، وانشغلوا مع أصدقائهم الأمريكان بمكافحة ما يسمى بالإرهاب إيثاراً للدعة والراحة وتفضيلاً لحياة الذل والهوان على موت عزيز كريم في سبيل الله. ولعل تركي الفيصل أيضاً لم يقرأ في حياته قول الله تعالى: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم”.
ثم يعيب تركي الفيصل على حماس أنها لم تقبل بالمبادرة المصرية، وهي في الحقيقة مبادرة صهيونية، صاغها نتنياهو، وحملها صديقه مجرم الحرب طوني بلير، وأرسله بها إلى القاهرة، ليطلب من مواليه حكام مصر الجدد أن يعلنوها باسمهم، وما هي إلا خطة ظاهرها فيه الرحمة والرغبة في حقن الدماء وباطنها شر كله، يراد منها تصفية المقاومة ونزع سلاحها، وإلحاق الهزيمة بحركة حماس من خلال فرض الاستسلام المذل والمهين عليها. ولعل تركي الفيصل لم يسمع أبداً بقوله تعالى: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”، ولا بقوله تعالى: “فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم”.
نعم يعيب عليهم أنهم لم يقبلوا بالذل والهوان، الذي يريده لهم بحجة أن من أعلن المبادرة ينبغي ألا يحرموا من دورهم القيادي الشرعي. ويعلم الله، ويعلم القاصي والداني من البشر أن مصر في عهد الانقلابيين فقدت كل دور قيادي، وكل موقع ريادي، ولا شرعية لما يصدر عمن اغتصب السلطة فيها ممن انتخبهم الشعب ووثق بهم، كما يعلم القاصي والداني أن من يحكمون مصر اليوم لا يوالون إلا أعداء الله، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. وكيف تكون لهم شرعية وقد جاءوا على ظهور الدبابات فداسوا بها خيار الشعب وسحقوا أصواته، وفتكوا بالآلاف من المعتصمين السلميين في رابعة والنهضة وباقي ميادين مصر، وزجوا بخيرة أبناء مصر في السجون والمعتقلات. إذا كان تركي الفيصل يعتبر أمثال هؤلاء أصحاب شرعية، فإننا نبرأ إلى الله منهم ومنه، ونتقرب إلى الله بخالص الدعاء أن يخلصنا منهم، ورغم كل المعاناة ورغم كل الألم، فإننا ما نزال نحلم بقيادات عربية مخلصة حقاً ، وصادقة حقاً ، وتخشى الله سبحانه.