شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

يومي الأول في السجن – كريمة الصيرفي

يومي الأول في السجن – كريمة الصيرفي
الصورة الكلاسيكية للمسجون مع رقم قضيته، افتعلت لهذه الصورة تعبيرات تتناسب مع ما وجه إليَّ من اتهامات لتكون الصورة قبيحة باختياري، ليس لأن مصورتها تتعمد زوايا خاطئة لنبدو فيها كالغول شريك الشهير.

يومي الأول في السجن -بل شهري الأول- كان كنزهة صيفية لم أكن أشغل نفسي فيها كثيرا بالتفكير القاسي، كنت أستمتع بحياة إحدى وعشرين فتاة داخل أربعة أمتار في ثلاثة أمتار طوال أربع وعشرين ساعة، كدار أيتام متهالكة تقطنها فتيات يطوين داخلهن حلما جميلا لحياة أجمل، هن يعلمن أنهم لن يحصلن على هذه الحياة أبدا، وقد يكون لبعضهن رحمة أو جحيما.

أنا أعرف عنهن جميعا ما قرأته قبل اعتقالي، لكنه لم يكن ليعبر عنهن، كلهن أبطال لروايات، إن وجدوا من يأبه لتفاصيل حياة الواحدة منهن، وبالطبع كعادة أي تجمع بشري عشوائي لن يكون الجميع بطلا في رواية للخير، منهن من تصلح لبطولة الشر، القليل منهن.

هنا شيء مختلف، ليس فيه حياة كما لا يرقي لسكون الموت، أعني أنك هنا فوق كونك مختزلا في رقم لملف قضية ما مجبر أنت على تلبية حاجاتك البشرية، أنا لا أتحدث عن المشرب والمطعم والخلاء، لا ..أبدا.. هذا بديهي لنا جميعا منذ اليوم الأول لنا مع وفاة حبيب، فننتبه إلى قرصة الجوع فلا نملك إلا أن نلبي نداء أمعائنا البشرية.

في السجن تتجلي حاجة بشرية عجيبة، حاجتنا إلى الاختلاف والتحزب، حاجتنا إلى أحداث تُجمَل انسياب العمر مللا في الزنزانة، شيء ننشغل به عن حِسبة ما مضي، من أشُهر وساعات وما تبقي من ساعات ودقائق وثوان، لا تختلف البداية عن كل البدايات الجميلة، تاه بصري مع كثرة الوجوه وعصية التمييز بين كل هذه الملابس البيضاء المتشابهة.

أتيتهم في وقت نوم، ورغم جوعي إلى النوم ما عدت أريد، أنا هنا خارج الزمن وخارج القلق، أريد أن أسمع من كل منهن حكايتها المغرية بالإكبار، أنا وسط 18 فتاة وامرأتان، لكل منهن حكاية قوة وتمرد، لم أرَ وجوههن في مثل جمال هذا اليوم، بعدها كانت قلوبهن حاضرة تتحدث، بل كنت أراهم بعين لا تعرف عنهن ما تفعله النفس وحَضرَتَها.

انحشرت مع اثنتين غيري في مساحة 70سم في 150 لننام بعد صراخ النبطشية فينا، استيقظت لأجد الكنز سليما في كيس cook door العظيم، عرضت على الجميع مشاركتي فيه، وانتهيت منفردة بالتهام “الساندويتش” الذي اختاره وكيل النيابة كتعويض مجزِ، التهمت ثمن أيام السجن مقدما، واحتفظت بـ”شوكولا السنيكرز” ليوم عسرة، لم أهدر من جائزتي شيء، استخدمت الكيس الورقي في كتابة الرسائل الغرامية لصديقاتي، صار الكيس رسالة منسية في درج إحدى صديقاتي المقربين، حتى كساه الغبار، هي لم تعرف أني دفعت خمسة أشهر وواحدا وعشرين يوما ثمنا لهذه الرسالة، بعدها أتت سجانة وأخذتني لتتمة الإجراءات التي منها صورة تزيين ملفي الإجرامي!

الصورة الكلاسيكية للمسجون مع رقم قضيته، افتعلت لهذه الصورة تعبيرات تتناسب مع ما وجه إليَّ من اتهامات لتكون الصورة قبيحة باختياري، ليس لأن مصورتها تتعمد زوايا خاطئة لنبدو فيها كالغول شريك الشهير.

دعاني بعدها رئيس المباحث إلى مكتبه ليسألني: إن كنت أحتاج شيئا، ثم أعطاني هاتفه لأحدث غريبا على الطرف الآخر، مع أول كلمة صار الغريب مألوفا، كان ضابط أمن الدولة المسؤول عن ملفي يخبرني أنه أوصي بنفسه العلية على الاهتمام بي، الضابط الذي أسمعني كثيرا أني عائدة إلى المنزل.

في هذه المواقف أحب أن أستمع دون إجابة، فهم لا يهتمون بما نقول بقدر أن يقولوا، فليهنئوا هم بالقول، وليكتب لنا الله الفعل خالصا من دون الناس، عدت بعدها إلى الزنزانة لأجد أننا انتقلنا إلى عنبر العسكري “المدهون” حديثا، لكل مكانه الذي ألفه، ولم يكن ثمة مكان لي إلا مساحة ميتة لا تستخدم، فصارت الآن لسبعين “سم” من مئة وخمسين، أرض زنزانة قذرة ستشهد لي عند الله في يوم عسير، لم يكن يصل إليَ فيها ضوء أو نسيم معظم اليوم، لكني وجدت فيها براحا من براح الزنازين.

كل أخذ يسكب عالمه المسروق والمُجمَع في حقيبة تخصه لينشره في براحه الخاص المشترك، ستعجب مثلي مما تحويه حقيبة المعتقل، نظرة فاحصة في إحداهن ستخبرك كل شيء عن صاحبتها، وكأنك نظرت داخله ومن خلاله، حقيبتان اثنتان سرقتا قلبي وأفصحتا لي همسا عن أسرار صاحبتهما، روضة وأسماء، هما لا يعرفان أني عرفت عنهما كثيرا منذ اليوم الأول دون أن يقولا.

يقول “أينشتاين” عما لا نفهمه من نظرية الزمان: “إن الذرة الواحدة لها وجود في أكثر من مكان، أنا وأسماء وروضة وجود زمني لنفس الذرة، فلم يكن لنا أن نلتقي إلا في هذا الثقب الأسود، صور مختلفة لنفس ذرة الكربون، شيء مختلف لنفس الشيء، بعض شيء لشيء أكبر”.

نحن التطرف اليميني واليساري وعدول المنتصف، زهرة وأجنحة ونسيم، بهجة وحداد، ضحي شمس ومحاق قمر، وتوهج تكسر الروابط الهيدروجينية، لا شيء يجمعنا إلا معني فلسفي، فما بين رائقة الأغاني الصوفية واشتعال الثورية ونشاذ دندنة الاستحمام كنا نحن.

 

حتى تلك اللحظة لم يكن ثمة نحن، لكن من يقاوم إغراء لحن البدايات الجديدة يخالط احتمالات عديدة لما ستكون عليه رفقة ثلاثتنا، لم تكن صحبة أسماء وروضة ينقصها شيء إلا القليل مني، فذهبت إلى حيث اجتمعنا ورحت أعرض صداقتي وخلفي كان كل معهود من كبريائي.

 

لم تغب شمس يومي الأول إلا وثمة نحن، اجتمعنا شهرا وزيادة، أحتمل حياة كاملة استقرت في أعماق سحيقة بين تلافيف عقلي لا تنمحي رغم ما بيني وبينها من أيام طويلة مجدولة في صورة عامين ونصف العام.

 

انقضي يومي الأول بغنيمة عٌمر.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023